مصلحة لهم بباريس في ملابس روعي فيها جانب الراحة أكثر من الأناقة، فيشعر المرء من أول وهلة أن المصلحة تهمهم أكثر من المظهر.
وترى وجوه القوم كأنما نحتها الهواء الطلق وكتب عليها علامات الصحة الجيدة، وحالما جاوزت الحافلة محطة فرساي، بدأ الريف الفرنسي ينشر لوحته الخضراء أمامنا، ويستلم من محطة لأخرى حصته من أولئك الركاب القرويين.
لم يكن ممكناً بباريس التعرف على هذا الوجه الحقيقي للحياة الفرنسية، وهذه هي المرة الأولى التي أتعرف فيها عليه، وبقدر ما سيزيد اكتشافي، أرى الملامح التي أوحت إلى (سولي) وزير هنري الرابع في أوائل القرن السابع عشر، ذلك الشعار الذي وضعه أساساً لسياسته: الحراثة والمرعى هما الضرعان اللذان تحتلبهما فرنسا.
واليوم أدرك تمام الإدراك، أنهما الضرعان اللذان رضعهما عصر النهضة، وأن النهضة الفرنسية بالذات، هي بنت هذا الإرضاع.
والآن بعد أربعين سنة- عندما تعود لفكري تلك الذكريات- أتصور أن الأقدار التي سخرتني وسيلة تعرفت خديجة بواسطتها على الإسلام، قد سخرتها هي لأتعرف بواسطتها على الوجه الأصيل للحضارة الفرنسية، في هذا الريف حيث استقبلتني أمها استقبالاً حل كل عقدة بيننا، وجعلني أتقبل دون تردد العرف الذي يقضي بأن الصهر زوج البنت ينادي أمها: يا أمي.
فقدمتني (أمي) إلى زوجها السيد (مورناس)، وهو رجل قروي بكل معنى الكلمة كان يمتلك في الناحية مطحنة، ثم أصبح يعيش هو و (أمي) من راتب تقاعدي ( Rente) شهري كوناه بأسهم اشترياها من سوق الأسهم بالثمن الذي بيعت به المطحنة وبما اقتصدا أثناء عملهما.
وهذا النوع من المتقاعدين يبلغ عددهم الملايين من تجار كبار أو صغار