آبائها الفلاحين بضاحية العاصمة كل ما تمتاز به أجيال فلاحي (جزيرة فرنسا) كما تسمى تلك الضاحية، من مثابرة في العمل وروح الكد، فلم تزل- في تلك الفترة التي وصلت فيها إلى بيتها- تضحك وتضحك، تسلي نفسها وتسلي الآخرين، مع أن موت (كروجير)، رجل الأعمال السويدي الذي كان انتحاره إحدى نتائج الأزمة الاقتصادية، قد مسّ كثيراً من المتقاعدين الفرنسيين مساً بليغاً و (أمي) بوجه خاص، لأنها كانت صاحبة بعض الأسهم في شركة (كروجير)، ولكنه لم يمس خفة روحها واستعدادها إلى اغتنام الفرصة المناسبة المسلية.
وأتيح لي أن ألاحظ بهذه المناسبة، الفرق بين (أمي) وبين خديجة زوجي، التي كانت من أصل برجوني، وكانت بسبب ذلك، أميل إلى العزلة والتأمل والسكون، الأمر الذي يحدث أحياناً بعض سوء التفاهم بين المرأتين.
وهذا جانب جديد اكتشفته في الحياة الفرنسية، مع (أمي) الباريسية القروية، المرأة التي تتقن تربية الدواجن وتسمي كل نبات بري باسمه خيراً مما يفعل صيدلي أو عطار، ومن ناحية أخرى تقرأ (بلزاك) وتضم بحنو جلّ كتبه في مكتبة صغيرة رتبتها لنفسها في ركن من خزانة أثاث الأكل.
فاطلعت بفضلها على بعض الجوانب الخفية التي لا تبصرها العين بالعاصمة، وهكذا تم اكتشافي للحياة الفرنسية كما تبرز على الطبيعة، دون عملية التقطير التي تجري عليها بباريس.
وحان يوم عودتنا، فرجعت (لويزة) إلى مرصدها فوق شارع (فريدريك ميسترال) من دون أي اكتراث بتغير المكان، وأصبحت زوجي تتردد على دكان مدام (بيري) صاحبة شقتنا، لتقضي معها العشيات حتى أعود من المدرسة ولعل العرق البرجوني قد جذب المرأتين.