الدين وما أصرفه أنا في الرياضيات، حتى ألحت علي زوجي، تفادياً لصمتي وعطفاً علي، أن أخصص مساء السبت للتسلية مع أصدقائي، فأذهب إما إلى جمهورية (تريفيز) حيثما أجد (مرسولين) أو أذهب قليلاً إلى الحي اللاتيني، لأن علاقتي بـ (حمودة بن الساعي) كانت حينذاك فاترة بسبب محاضرته في نادي الترقي، فلم أكن في نظر صديقي حاسماً في دفاعي عن شرفه عندما وصمه الشيخ (العقبي) بتلفيقها من مصادر مختلفة، وقد كان أخوه (صالح) من رأيه.
ولكن ضرورات الصراع لم تتركنا طويلاً على هذا الوضع، فجمعتنا مرة أخرى وحدة الصف، دون أن أتذكر من منا كان الأول في التغلب على كبريائه، وعلى كل كان صديقي في حاجة إليّ ليقرأ عليَّ الوريقات الصغيرة التي يملؤها بانطباعاته وتأملاته خلال الأسبوع، وكنت في حاجة إليه لتبادل الرأي حول (نيتشه)، وقد اكتشفته في ترجمة لـ (هاليغي)، أو حول (سبينوزا) الذي شغلني أيضاً في دراسة قيمة تتناول حياته، تلميذاً لـ (ابن ميمون) وبالتالي بالنسبة للمدرسة الإسلامية في عصره. ولقد كانت فعلاً بروق الأول وصواعقه وأفكار الثاني الملتوية المتسربة تشغل بالي كثيراً في تلك الحقبة.
وكان (نيتشه) يشغلني خصوصاً لأن صواعقه كانت تدوي فعلاً في تلك الفترة التي ستفجر فيها الحرب العالمية الثانية، لم تكن الانتخابات العامة لرياسة الجمهورية بألمانية قد أعطت سوى مهلة لأوربا بنجاح المرشال (هندنبورغ)، ولكن الصحافة الألمانية نفسها قد عبرت عن حقيقة تلك الانتخابات منذ الغد، عندما أعطت نتيجتها في عناوين لاذعة هزلية تقول:((كسب (هندنبورغ) عشرة ملايين من الأصوات ولكن عمر هتلر أربعون سنة)).
وبالتالي قدر للمرشال العجوز بطل معارك (تاننبرغ) أن يكون هو الذي يدعو بنفسه هتلر مستشاراً إلى جانبه يوم ٣٠ كانون الثاني (يناير) ١٩٣٣.