ويديه في إناء صنع من النحاس المطلي بالقصدير يدعى (الليان)، استرعى انتباهي أن النافذة مزودة بمنخل قضبان من الحديد المطلي باللون الأخضر من طراز (المريسك)، وضع فيها إبريقان يرشحان من مسامهما، وأنها تطل على حي الرمل وعلى المحطة وكذلك غابات الصنوبر البعيدة.
كان علي أن أرافق عمي إلى المدرسة ليقدمني إلى معلم المرحلة التكميلية مسيو (مارتان martin)، الذي كان أيضاً معلمه القديم ومعلم والدي. مررنا أولاً بكشك جدي حيث اعتاد عمي أن يأخذ جريدة الصباح، ثم اجتزنا شارع (كارامان Caraman) الذي بدا لي أجمل من قبل.
كان الشبان يتخذون من المكان الذي يقوم فيه اليوم سوق الخضار مرتعاً لنزهاتهم، وذلك قبل أن تبنى السقيفة الحالية سنة ١٩٢٥؛ أما المتقدمون في السن فكانوا يقصدون لنزهاتهم ساحة (بريش Brèche) التي كانت أكثر اتساعاً قبل أن تطرأ عليها التغيرات. ويعد شارع (فرانس France) المركز الرئيسي والمختلط للمدينة، إذ هو صلة الوصل بين الأحياء العربية والفرنسية واليهودية. ومن هذا الشارع بالذات كانت تنطلق في كل مرة شرارة الاصمطدامات كما حدث في الخامس من آب (أغسطس) سنة ١٩٣٤ بين العرب واليهود.
واتخذ عمي طريقاً ينزل بنا نحو سوق رباط الصوف. اجتزنا الساحة ومشينا في ذلك الطريق الذي يمتد منها حتى مدرسة سيدي الجلي. وخلال سيرنا عرَّج عمي على مصنع (بن القريشي) للتبغ حيث كان فيه رئيس محاسبته.
وسرعان ما اندمجت بجو ذلك المصنع، فقد كان على ما أعتقد منزلاً جميلاً للسكن ذا طراز موريسكي وحيطانه مطلية (بالزليدخ)، أما الدار فقد كانت من الرخام الأبيض.
رائحة التبغ تأخذ لك منذ ولوجك المصنع، وهذا لم يكن شيئاً مزعجاً في