وسرعان ما أدركنا عداءه لبعض التقاليد السائدة في المجتمع الإسلامي كالطرق الصوفية، وكراهيته لتجاوزات الإدارة الفرنسية في تصرفاتها. وإذا اتفق أن وجدت مناسبة في هذا المجال كان يحلو لنا أن نستدرجه لصرف الساعة في شتم العادات الاجتماعية أو في الهجاء السياسي، وكنا نفضل ذلك على البحث في الفعل الثلاثي وتصريفاته.
وعندما كنا ننصرف من درسه في الثامنة إلا ربعاً، كانت هذه تماماً ساعة تناولنا لقطعة من زلابية فطيرة، أو كوب من ماء الحمص والذهاب بسرعة إلى مدرسة سيدي الجيلي حيث (مسيو مارتان Martin)، وكان هذا المعلم يثري تلاميذه بالمفردات ويطبع في نفوسهم الذوق وفن الكتابة. وكان يقرأ لنا أحياناً القطع الجيدة التي كتبها من هم أكبر منا والذين قضوا في مدرسته أكثر من سنة.
لقد طبع في نفسي هذا الأستاذ تذوق القراءة، ففي مساء كل سبت كان يعير الكتب للتلاميذ. وقد أتاح لي ذلك أن أقرأ كل كتب (جول فيرن Jules Verne) وبعضاً من روايات (الرداء والسيف).
ومع عمي محمود تعلمت أشياء أخرى، فقد كان رجلاً محباً للحياة تدربت معه على العزف على آلته الموسيقية، وكنت أعزف قطعة لم أعد أذكر أهي من مقام (الزيدان) أو مقام (السيكا). وحينما كنت وحدي كنت أتناغم مع ألحانها.
ولكن الذي أثار تطلعي إليه هو الضرب على (النقارات). وهي عبارة عن قطعة موسيقية مؤلفة من طبلين صغيرين مركزين على قطعة خشبية يضرب عليهما بعصا صغيرة، وكانت هذه القطعة تستعمل في مجالس رجال الطريقة العيسوية في قسنطينة والقادرية في تبسة على السواء.
كان عمي يحسن الضرب على تلك الآلة، وكانوا في الزاوية العيسوية حيث كنت أرافقه مساء كل سبت يعدونه اختصاصياً ممتازاً بها. وشيئاً فشيئاً ألفت