للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ذلك أن الحديث يُفيد أنّ للعلم الحاصل للإنسان طريقين؛ منصوصاً عليهما فيه:

- أولهما: المُعاينة، وهو أن يُبصر الإنسان أمامه حَدَثاً واقعاً فيَعلم بوقوعه؛ علماً مُباشراً دون واسطة، وقال الله عزّ وجلّ في مثل ذلك مِمّا لا ينكره منكِر: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} (١) [آل عمران ١٣]

فمرأى العين لا سبيل إلى إنكار وقوعه، ولا مجال لردّه، إلا أن يُدّعى في ذلك تخييل وتمويه؛ فذلك طارئ، وعلى خلاف الأصل، وهو مُحتاج إلى إثبات يُقرّر حصوله:

وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليلِ (٢)

- ثانيهما: الخبر (٣) ، وهو وسيلة العلم لمن لم يحصل له العلم المباشر


(١) ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية أنها في وقعة بدر؛ (عندما عاين كل من الفريقين الآخر؛ رأى المسلمون المشركين مثليهم -أي: أكثر منهم بالضعف- ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم عز وجل، ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصافّ والتقى الفريقان قلّل الله هؤلاء في أعين هؤلاء وهؤلاء في أعين هؤلاء ليُقدم كل منهما على الآخر) ، وهذا من باب الكرامة للمسلمين الذين انتهت بهم المعركة إلى النصر المُؤزّر كما قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
(٢) ديوان المتنبي ٣/٩٢، مع شرح العكبري، وفيه: (في الأفهام شيء) .
(٣) قال العلامة الشوكاني-رحمه الله-: (الأَوْلَى أن يُقال في حدّ الخبر: هو ما يصحّ أن يدخله الصدق والكذب؛ لذاته) ، وقرّر هذا بعد مُناقشاتٍ لِّتعاريفَ لم تَسْلمْ من الاعتراض، في كتابه إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص (٤٤) ، وانظر قبله: ص (٤٢، ٤٣) ، وعند الزبيدي –رحمه الله- في تاج العروس – مادة (خ ب ر) ٣/١٦٦-١٦٧: نحوه؛ وهو ما قرّره بقوله: (إن أعلام اللغة والاصطلاح قالوا: الخبر –عُرفاً ولغةً- ما يُنقَل عن الغير، وزاد فيه أهل العربية: واحتملَ الصدقَ والكذب لذاته) ، وذكر ابن فارس –رحمه الله- في كتابه معجم مقاييس اللغة ٢/٢٣٩-: (الخُبْرَ) أحدَ أصلين في هذه الحروف الثلاثة، وجعل المعنى –على هذا الأصل: (العلمَ بالشيء، تقول: لي بفلان خِبْرةٌ وخُبْرٌ) ، زاد الزبيدي: (يُقال صدَّقَ الخُبْرُ الخَبَرَ) كأنه بمعنى صدّق العلمُ بالشيء -بعد رؤيتهِ المباشرة- ما نُقِلَ عنه من خَبَر؛ وطابَقَهُ، ومن هذا المعنى أخذ الحافظ ابن حجر تسمية كتابه: (مُوافقة الخُبْرِ الخَبَرَ في تخريج المنهاج والمختصر) ، على أنّ الزبيدي نقل عن بعضهم التفريقَ بين الخُبْر والخِبرة.

<<  <   >  >>