وهذه طريقة أهل الزهد والعلم والعبادة من الصوفية السلفيين ومن غير الصوفية، ولم يزل في المسلمين قديماً وحديثاً خلق كثير وجمع غفير يشتغلون جُلّ وقتهم بالعبادة القلبية الروحية، ويتوجهون إلى ربهم بقلوبهم، ويعلقون عليه آمالهم، وينقطعون إليه وحده، ويعرضون عما سواه، ولا ينافي ذلك إعطاء النفوس حظها من راحة ولذة مباحة: من مأكل، ومشرب، ومنكح، وملبس، وكذا الاشتغال بالكسب الحلال، وجمع المال الذي تمس إليه الحاجة من وجوهه الجائزة، كما أمر الله بذلك في قوله:((فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)) (الجمعة:١٠) . وكما في قوله تعالى:((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)) (المزمل:٢٠) .
وإذا كان الأنبياء والرسل يلتمسون الرزق ويطلبون المال من وجوهه، كما قال تعالى:((وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)) (الفرقان:٢٠) . فكيف بأتباعهم، ومن هو دونهم؟ فإن أراد الكاتب بالانقطاع إلى الله، ترك الدنيا وما فيها والزهد في المباحات، والرهبنة، وترك كل الملذات ومشتهيات النفس التي تتقوى بها على الطاعات، فهذا الوصف والقصد غير صحيح؛ بل هو خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الرسل وأتباعهم.
* فأما قول الكاتب: و [يهيئ النفس للملكية] .. الخ.
فهو خطأ من القول؛ فإن أراد بالملكية الصعود بالنفس إلى مقام الملائكة واتصافها بالروحية والنوارنية والاتصال بالملأ الأعلى، ونحو ذلك، فلا يصح، فإن نفس الإنسان لا تصل إلى صفات الملائكة، التي من خصائصها: العلو، والخفة، والنور، والمكاشفات، والاستغناء عن الدنيا، والانكفاف عن الشهوات، ونحوها. فإن الله ركَّب في طباع البشر من الشهوة، والالتذاذ بالطعم والمشرب، والميل إلى ذلك، والتألم بفقده ما لم يكن من صفات الملائكة.