للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الحمد لله الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم. والصلوة والسلام على سيدنا محمد أول كلمة خطت في صحيفة العيان. وأفضل نعمة جرى بها قلم الإرادة بمداد التفضل على سكنة عالم الإمكان. وعلى آله وصحبه الكابتين بأسنة بنانهم وألسنة بيانهم من جيوش الجهل كل كمى.

والكاتبين بسمر الخط ما تركت ... أقلامهم حرف جسم غير منعجم

صلوةً وسلاماً تتزين بهما السطور. وتصقل ببركتهما ألواح الصدور. ما نقلت عن صحف البحار غواديها. وكتبت أقلام النور على مهارق الرياض حكمة باديها.) وبعد (فإن من منن الرب. أن جعل في مدينة الجسد ملكاً يسمى بالقلب منه يصدر النهي والأمر. وبرأيه يظهر الخير والشر. ولما كان ملكاً محجباً. وعذيقاً في تلك المدينة مرجباً. جعل الله سبحانه له من أشراف مملكته ترجماناً. ونصب له منها سفيراً يسمى لساناً. فغدا يترجم عما فيه. ويبدي من مقاصده ما يبديه. فذاك الأول في تلك المغاني. وهذا منه وعينيك في المحل الثاني.

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فلولا شأن اللسان. لشان العي أمر التمدن الطبيعي للإنسان. ثم أنه لما كانت فائدته كالمقصورة على إفادة الحاضر. قلما تسري للغائب أبنائي أو من يأتي من الأواخر. علم عز وجل الإنسان الكتابة. وأزال بها عن فؤاد الإفادة الكآبة. فهي جناح اللسان. ورسوله إلى من نأى في البلدان. وأمينة لمن لم تلده بعد أرحام الزمان. فترى أشجار فوائدها نامية. وبحار فرائدها بالنفع طامية. ولذا شرف الباري سبحانه القلم. وسوده جل شأنه بمداد القسم. فقال تبارك اسمه) ن والقلم وما يسطرون (.

كفى معشر الكتاب فخراً وسؤدداً ... على الناس أن الله أقسم بالقلم

وقد روي عن أبي الحسنين. أنه قال القلم أحد اللسانين. ويا له من لسان تبقى في صحائف الدهور آثاره. ولا تحجب عن صفائح الآفاق أنواره. ويكفي في التنبيه على شرف الكتابة. وأصابه النبه المتصف بها فؤاد هدف الإصابة. إن الله تعالى لم يخل منها ملائكته الكرام. عليهم أفضل الصلوة وأكمل السلام. فقال سبحانه) كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون (وقال تعالى) أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (بل ظواهر بعض آي الكتاب. تشعر بنسبة الكتابة إلى رب الأرباب. وجاء في خبر لا شك في صحة سنده. أن الله تعالى كتب التوراة بيده. وفي بعض الآيات. الأمر بالكتابة في بعض الأوقات. ولولا أن عدم الكتابة هو الأوفق للإعجاز في شأن الحبيب الأعظم. والرسول الأكرم. صلى الله عليه وسلم. لجعل الله تعالى له من حسن الخط الحظ الأوفر. ومن نفاسة شكل الرسم الحد الأكبر. على أنه قد قيل. وفيه بحث طويل. أنه عليه الصلوة والسلام. قد علمه ربه سبحانه وتعالى في آخر الأمر الخط بالأقلام. وبالجملة الكتابة كمال أي كمال. وزينة زينة للرجال. كم نالوا بهاؤهم قاعدون على الإعجاز الصدور. وكم صعد لهم الزمان من أنبيق قصبها وهم غافلون قطر السرور. ولله تعالى در من قال. وهو من در المقال.

خط حسن جمال مرء ... إن كان لعالم فأحسن

فالدر مع النبات أحلى ... والدر على البنات أزين

فلا بدع أن ابيضت اللمم في تسويد القراطيس لتحصيلها. أو انتقصت اللذائذ في صرف نقد العمر النفيس نحو تكميلها. فنفعها كثير. وفضلها كبير. ولو اتسع لي قرطاس الزمن. ومدني الدهر بمداد الراحة في محبرة الوطن. لحررت من ذلك ما يسر الكتاب. ولا يكاد يوجد مسطوراً في كتاب. وفيما ذكر كفاية. لمن كان عنده حرف من الدراية. وهذه لعمرك دعوى محققة. فلنسد ثغر الدواة ونعقد لسان القلم ونطو كشح الورقة. انتهى.

وأنت تعلم أن كلتا الرسالتين نقطة من بحر ما تمدح به هذه الصنعة. وأنى يستوعب لسان القلم مدح ما قد غدا للكمال بصره وسمعه. نعم قد قيل:

من فاته العز بالأقلام أدركه ... بالبيض تقدح من أعطافها الشررا

لكنه لا ينافي ما ادعيناه من الفضيلة. كما لا يخفى على ذي فكرة ليست بالقليلة. ثم إنا لا ندعي التلازم بين الكتابة. والعروج بمعارجها عن حضيض الكآبة. فكم من كاتب كئيب نبذ بالعرى. يبكي ابن مقلته فيكل آونة من أبي ضوطري. حظه كمداده. وسواد ثوبه من الدرن أشد من سواده. ومجرى رزقه. أضيق من ثقب قلمه وخرقه. وقد قال من ألم به من سوء حالة الألم:

<<  <   >  >>