شاهداً لك إذا أنكرت، وتقيم الاستسلام للحجة - إذا قامت - محتجاً عنك إذا خالَفْت، فإنه لا حال أشدّ استعطافاً للقلوب المنحرفة، وأكثر استمالةً للنفوس المشمئزة، من توقّفك عند الشُبهة إذا عرَضت، واسترسالِك للحجة إذا قهرت، والحكمِ على نفسك إذا تحققت الدعوى عليها، وتنبيه خصمك على مكامن حيَلك إذا ذهب عنها؛ ومت عُرفْت بذلك صار قولُك برهاناً مسلَّماً، ورأيك دليلاً قاطعاً، واتهم خصمُك ما علمه وتيقنه، وشكّ فيما حفظه وأتقنه، وارتاب بشهوده وإن عدّلتهم المحبة، وجَبُن عن إظهار حُججه وإن لم تكن فيها غميزة، وتحامتك الخواطر فلم تقدم عليك إلا بعد الثقة، وهابتك الألسُن فلم تعرض لك إلا في الفَرْط والنُدرة.
وما زلتُ أرى أهل الأدب - منذ ألحقتني الرغبةُ بجملتهم، ووصلَت العنايةُ بيني وبينهم - في أبي الطيب أحمد بنِ الحسين المتنبي فئتين: من مُطنب في تقريظه، منقطع إليه بجملته، منحطّ في هواه بلسانه وقلبه، يلتقي مناقِبَه إذا ذُكِرت بالتعظيم، ويُشيع محاسنه إذا حُكيت بالتفخيم، ويُعجَب ويعيد ويكرر، ويميل على من عابه بالزِّراية والتقصير، ويتناول من ينقصُه بالاستحقار والتجهيل؛ فإن عثَر على بيت مختلّ النظام، أو نِبَه على لفظ ناقص عن التمام التزم من نُصرة خطئه، وتحسين زلَله ما يُزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقام المنتصر. وعائبٍ يروم إزالتَه عن رُتبته، فلم يسلّم له فضله، ويحاول حطّه عن منزلةٍ بوّأه إياها أدبُه؛ فهو يجتهدُ في إخفاء فضائله، وإظهار مَعايبه، وتتبع سقطاتِه، وإذاعة غَفلاته.
وكلا الفريقين إما ظالمٌ له أو للأدب فيه؛ وكما أن الانتصار جانبٌ من العدْل لا يسدّه الاعتذار؛ فكذلك الاعتذار جانب هو أولى به من الانتصار، ومَن لم يفرِّق