للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأنّا سلّمنا لك ما زعمته، أين أنت من قوله في إثر هذا البيت:

كأنّ العيسَ كانت فوقَ جفني ... مُناخاتٍ فلمّا ثُرْنَ سالا

قال: فاستشاط غيظاً، ثم قال: هذا المصراع يسقط دواوين عدة شعراء! فإنْ كان هذا الحكم سائغاً، وكان ما قاله مقبولاً، فإن أحد أبيات الفرزدق يُسقط شعر بني تميم جملة؛ فقد ترى ما بينَها من الفضل في النقص، وتتبين تفاوتها في سوء الترتيب واختلال النظم. ولو كان التعقيدُ وغموضُ المعنى يُسقطان شاعراً لوجب أن لا يُرى لأبي تمام بيت واحد؛ فإنا لا نعلم له قصيدة تسلم من بيتٍ أو بيتين قد وفَر من التعقيد حظهما؛ وأفسد به لفظهما، ولذلك كثُر الاختِلاف في معانيه، وصار استخراجها باباً منفرداً؛ ينتسِب إليه طائفة من أهل الأدب، وصارت تُتطارح في المجالس مطارحة أبيات المعاني، وألغاز المُعمّى.

وليس في الأرض بيت من أبيات المعاني لقديم أو محدث إلا ومعناه غامض مستتر؛ ولولا ذلك لم تكن إلا كغيرها من الشعر، ولم تفرَد فيها الكتب المصنّفة، وتُشغل باستخراجها الأفكار الفارغة.

ولسنا نريدُ القِسم الذي خفاء معانيه واستتارُها من جهة غرابة اللفظ وتوحش الكلام، ومن قبل بُعد العهد بالعادة وتغيّر الرسم، كاختلاف الناس في قول تميم بن مقبل:

يا دار سلمى خلاء لا أكلِّفها ... إلا المرانةَ حتى تعرِفَ الدِّينا

فإن الذي خالف بين أقاويلهم فيها هو أنهم لم يعرفوا المرانة، فقال قائل: هي ناقته، وقال آخر: هي موضع دار صاحبته، وقال آخر إنما أراد الدوام والمرونة.

<<  <   >  >>