فنازعه المعنى، وانفرد دونه بالعيب؛ لأن أبا دَهبل زعم أن البرآء يتمنون أن يُذنِبوا فيُصيبوا عفوة، ولا نقْص في ذلك على الممدوح؛ لأن انفراده بالعفو متعذّر، وإنما سببه الى ذلك ذنب المحرم وخطأ الجاني.
وزاد أبو تمام فزعم أنّهم يتمنون اليُتم؛ ليصلوا الى رِفده، ويلحقوا بالأيتام في تكفّله، والممدوح ممكّن من إفاضة العدل، وبثّ العُرف، وإغنائهم عن هذا التمني الذي لا يختاره العاقل إلا بعد بلوغ الجهد منه، ووصول القُنوط الى قلبه، واستيلاء الضّنك على معيشته؛ وليس من صفة الجواد أن يعرّض مُدّاحه وقصّاده، ومن علقت به آماله، وسمت إليه همتُه لسوء الحال، ويكلّفهم الأماني الرّذْلة. وقد مدح أبا المغيث، فقال:
اسقِ الرعية من بشاشتك التي ... لو أنها ماء لكان مَسوسا
إن البشاشة والندى خيرٌ لهم ... من عفة جمَسَت عليك جُموسا
لو أنّ أسباب العَفافِ بلا تُقًى ... نفعت لقد نفعتْ إذاً إبليسا
فليتَ شعري عنه لو أراد هجوه، وقصد الغضّ منه، هل كان يزيد على أن يذم عفّته، ويصفها بالجموس والجمود، وهما من صفات البرد والثقل، ثم يختم الأمر بأن يضرب له إبليس مثلاً، ويقيمه بإزائه كُفُواً، هذا وهو يقول في مثل ذلك غير مادح، وبحيث يحتمل الاتساع ولا يضيق التصرف: