وَهُنَاكَ الْكثير من الْحفاظ غير مَا ذكرت مِمَّن يحفظون الْكثير وبمثل هَذَا الْحِفْظ يَسْتَطِيع الرَّاوِي أَن يعرف الْأَسَانِيد سَوَاء كَانَت للشاميين أَو للمصريين أَو للبصريين أَو الْمَدَنِيين أَو الخراسانيين وَمَا إِلَى ذَلِك مهما اخْتلفت، ويميز طَرِيق كل حَدِيث عَن غَيره وتصبح الرِّوَايَات والرواة مهما تَبَاعَدت الْبلدَانِ فِي حفظه وَبَين يَدَيْهِ وَيفرق بَين الصَّحِيح والسقيم مِنْهَا وَلَا يَسْتَطِيع دخيل أَن يندس بَين راوة الحَدِيث لِأَنَّهُ يعرف الروَاة بأعيانهم وأحوالهم وَلَا تخفى عِلّة عَلَيْهِ، وَعمل البُخَارِيّ مَعَ الَّذين آتوا بِمِائَة حَدِيث مَعَ عشرَة أشخاص مَقْلُوبَة السَّنَد والمتن ليختبروه فَلَمَّا سَمعهَا على الْحَالة الْمَذْكُورَة رد كل حَدِيث إِلَى سَنَده، وكل سَنَد إِلَى حَدِيثه، وَمَا ذَلِك إِلَّا لحفظه وتمكنه ومعرفته بتركيب الْأَسَانِيد والمتون، أما مَا يَفْعَله الْبَعْض من الجهلة والزنادقة من التطاول على سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتعدي على المصنفات الحديثية الْمُعْتَمدَة ونقدها من غير حفظ وَلَا اطلَاع على فن الحَدِيث وعلومه ففعلهم مرض فِي قُلُوبهم وحقد على مصدر الْإِسْلَام وَبعد عَن الدّين وَاتِّبَاع للشَّيْطَان حَيْثُ قَامَ على غير أساس، وَلَو سَأَلت الْوَاحِد مِنْهُم كم يحفظ من الْأَحَادِيث بأسانيدها لأجابك بِالنَّفْيِ وفاقد الشَّيْء لَا يُعْطِيهِ.
وَالسَّبَب فِي رد الْحَافِظ المتقن رِوَايَة الرَّاوِي وَهُوَ مَا كَانَ فِيهِ من عِلّة قادحة فِيهِ أَو فِي رِوَايَته كَمَا جَاءَ فِي التَّعْرِيف، وَالْعلَّة عبارَة عَن سَبَب غامض خَفِي قَادِح فِي الحَدِيث مَعَ أَن ظَاهره السَّلامَة مِنْهُ أَي السَّبَب الغامض، وبتعريف آخر نقُول الحَدِيث الْمُعَلل مَا اطلع فِيهِ الْحَافِظ الْخَبِير بالفن على عِلّة تقدح فِي صِحَّته مَعَ ظُهُور السَّلامَة عَلَيْهِ وَتَكون الْعلَّة فِي الْإِسْنَاد الْجَامِع شُرُوط الصِّحَّة ظَاهرا مَعَ خفائها فِيهِ، أما علامتها وَكَيْفِيَّة مَعْرفَتهَا: فتعرف الْعلَّة بتفرد الرَّاوِي، وبمخالفة غَيره لَهُ مَعَ قَرَائِن تُضَاف إِلَى ذَلِك تنبه الْعَارِف بِهَذَا الشَّأْن الَّذِي أدمن الِاطِّلَاع فِيهِ وسبر أَهله على وهم وَقع بإرسال الْمَوْصُول أَو وقف فِي الْمَرْفُوع أَو دُخُول حَدِيث فِي حَدِيث أَو غير ذَلِك بِحَيْثُ يغلب على ظَنّه فَيحكم بِعَدَمِ صِحَة الحَدِيث أَو يتَرَدَّد فَيتَوَقَّف فِي قبُوله.. قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ:"الْبَاب إِذا لم تجمع طرقه لم يتَبَيَّن خَطؤُهُ.." وَبَقِيَّة قيود التَّعْرِيف سنذكرها إِن شَاءَ الله بعد تَعْرِيف التَّعْدِيل.
التَّعْدِيل: جَاءَ من عدل الحكم أَقَامَهُ، وَعدل الرجل زَكَّاهُ، وَالْمِيزَان سواهُ، وَعَلِيهِ فالتعديل التَّقْوِيم والتسوية والتزكية، والعادل من النَّاس من يقْضِي بِالْحَقِّ وَالْعدْل من الْأَشْيَاء مَا قَامَ فِي النُّفُوس أَنه مُسْتَقِيم والمقبول والمرضى قَوْله وَحكمه، وَجَائِز الشَّهَادَة، وَتقول امْرَأَة عدل ونسوة عدل وَقد يجْرِي مجْرى الْوَصْف الَّذِي لَيْسَ بمصدر فَتَقول امْرَأَة عَدَالَة.
وَالتَّعْدِيل فِي الِاصْطِلَاح: وصف الرَّاوِي بِمَا يَقْتَضِي قبُول رِوَايَته..
زِيَادَة إِيضَاح:
وأستطيع أَن أعرفهُ بتعريف آخر مُجمل فَأَقُول: هُوَ علم يبْحَث فِيهِ عَن جرح الروَاة وتعديلهم بِأَلْفَاظ مَخْصُوصَة.. ومراتب تِلْكَ الْأَلْفَاظ..
وَهَذَا الْعلم من فروع علم رجال الحَدِيث وَلم تكْثر الْكِتَابَة فِيهِ مَعَ أَنه علم عَظِيم لِأَنَّهُ ميزَان رجال الحَدِيث ومعيار الحكم عَلَيْهِم وَهُوَ الحارس للسّنة من كل زيف ودخيل..
وَالْكَلَام فِي الرِّجَال جرحا وتعديلا ثَابت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ عَن كثير من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ، وَجوز ذَلِك تورعا وصونا للشريعة لَا طعن فِي النَّاس، وكما جَازَ الْجرْح فِي الشُّهُود جَازَ فِي الروَاة والتثبت فِي أَمر الدّين أولى من التثبت فِي الْحُقُوق وَالْأَمْوَال.. فَلهَذَا افترضوا على أنفسهم الْكَلَام فِي ذَلِك سَيَأْتِي بَيَان أول من عني بذلك من الْأَئِمَّة.