قال يا جرير ما أرى لك فيما هاهنا حقاً، قال: ما بي يا أمير المؤمنين: أنا ابن سبيل منقطع بي، فأعطاه من صلب ماله مائة درهم، وقد ذكر أنه، قال له: ويحك يا جرير، لقد ولينا ألينا هذا الأمر، ولا نملك إلا ثلاثمائة درهم مائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله، ومائة موجودة، يا غلام أعطه المائة الباقية.
قال: فأخذها وقال: هي، والله خير لي من جميع ما اكتسبته طول عمري، ثم خرج، قال له الشعراء: ما وراءك يا جرير؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين، وهو يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء وإني عنه لراضٍ، ثم أنشدهم: [الطويل]
رأيتُ رقي الشّيطانِ لا تستنفزهُ ... وقد كان شيطاني منَ الجنِّ راقياً
احتاز صديقان على دار خالد بن صفوان، فعرّج أحدهما إليه وعبر الآخر فقبل له في ذلك، فقال: عرّج هذا لفضله، وعيّر ذاك لثقته لبعضهم: [الكامل]
وإذا الفتى قعدت بهِ أيامهُ ... لم ينتعش إلاّ بعونِ كريمِ
فأعن على الزَّمنِ الغشومِ فإنَّما ... يدعى العظيمُ لدفعِ كلِّ عظيمِ
ولبعضهم: [الكامل]
ولقد تبسَّمتَ النَّجاحَ لحاجتي ... فإذا لها من راحتيكَ نسيمُ
ولربّما استيأستُ، ثم أقولُ لا ... إنّ الّذي ضمنَ النَّجاحَ كريمُ
قال بكر بن محمد بن المازني: قال إسحق بن عيسى الهاشمي لجلسائه أنا أعلم أن في منازلكم، ما تأكلون من خبز ولحم وإنما تطيب المجالس بالتبذل فانتزعوا ثيابكم لابن كناسة: [المنسرح]
فيَّ انقباضٌ وحشمةٌ فإذا ... صادفتُ أهلَ الوفاءٍ، والكرمِ
أرسلتُ نفسي على سجيّتها ... وقلتُ ما قلتُ غيرُ محتشمِ
روي أن المأمون قال لعبد الله بن طاهر: أيما أطيب مجلس، أو مجلسك؟ فقال: ما عدلت بك شيئا يا أمير المؤمنين، فقال له المأمون: ليس إلى هذا ذهبت، إلى الموافقة في العيش، واللذة، فقال يا أمير المؤمنين منزلي، قال: ولم ذاك؟ قال لأني فيه، مالك، وأنا هاهنا مملوك.
قال كسرى أنوشروان: من لم يكن في داره بستان، أو قدامه ريحان، أو هو على نهر جار، أو عنده صبي يلاعبه فمات، فإنما موته من الغمّ، وقال أبو حاتم في الموافقة وحسن الاتفاق: [الكامل]
وفتيةٍ قد عطفوا على الإخاء ... إن قالَ بعضُ لا أجابوهُ بلاَ
ظرفاً وإنَّ قالَ بلى قالوا بلى ... شخوصهم شتَّى، وهم نفسُ فتى
وقال أيضاً إنّ يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للهو، والشرب، ويوم الشمس للحوائج، وما أحسن، قول أبي نواس: [الطويل]
وليس الغنى والفقرُ من خلَّةِ الفتى ... ولكن أحاطتْ سمةٌ وحدودُ
قال بعضهم لرجل كان بتعهده، ويواسيه بمعروفه، سل الذي رحمني أن يرحمك لي، وقد أحسن بن أبي حفصة في قوله: [البسيط]
والرأيُ كالسيفِ ينبوا إن ضربتَ بهِ ... في غمدهِ وإذا جرَّدتهُ قطعا
وقال حضين بن المنذر: [الكامل]
إنَّ المروءةَ ليس يدركها امرؤٌ ... ورثَ المكارمَ عن أبٍ فأضاعها
أمرتهُ نفسٌ بالدَّناءةِ، والخنا ... ونهتهُ عن طلبِ العلي فأطاعها
وإذا أصابَ منَ الأمورِ كريمةً ... بني الكريمُ لها المكارمَ باعها
وكتب المعتصم إلى عبد الله بن الحسين الحمد لله أدخلك من خليفته محل نفسه، فمالك مرتبة تسمو إليها نفسك غلا، وأنت فوقها عنده. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر: عافانا الله وإياك، كانت في نفسي عليك هناءة، غفرها الاقتدار عليك، وقد بقيت في قلبي عليك خرارة، وأخاف عليك منها، عند نظري إليك.
فإن أتاك ألف كتاب مني أستقدمك، فلا تقدم، فحسبك معرفة بما أنطوي عليه لك إطلاعي إياك على مالك في نفسي، والسلام. ولما كتب الضحاك بن قيس الخارجي إلى مروان بن محمد، لأجهزن إليك المرد على الجرد، فأجابه لأحملن إليك الكهول على الفحول.
قال الفضل بن مروان: دخلت يوماً على المعتصم، ومعي خبر من بابك كيسوة وخبر جارية حسناء أراد شراءها، فلم يمكنه، ثم تهيأ في أمرها ما يسره، فبدأته بخبر الجارية لتطيب نفسه قبل أن أخبره بخبر بابك، فلما سمع خبر الجارية سره سروراً ظاهراً وقال: الآن علمت أني خليفة.