ما كانت لي دنيا، ولا خلافة، وليست في ملكي أن أهب لها، فكأنه خف في عيني، ثم عرفته خير بابك فاسترجع، وقال أستعين عليه بالله وبقرابتي من رسول الله، وبدولة الحق، ويمن تدبيرك يا فضل فتقل، والله في عيني وجل. قيل لمحمد بن المنذر ما تشتهي؟ فقال محادثه محبوب، وتنفيس عن مكروب. قيل إن عتبة بن أبي سفيان، قال لمؤدب ولده: بك يا عبد الكريم أول ما تبدأ به من إصلاح ولدي إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبح ما تركت.
ثم علمهم كتاب الله (عز وجل) ، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، وروّهم سير الحكماء، ولا تنقلهم من علم إلى علم، حتى يتقنوه، فإن ازدحام العلم في السمع مفضلة الفهم، وكن كالطبيب الأديب الذي لا يعجل بالدواء قيل: معرفة الداء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني، ولا تتكل على عذر مني، فقد اتكلت على كفاءة منك، واستزدني بزيادتك إياهم، أزدك إن شاء الله تعالى.
ذكر هشام بن عبد الملك أنه كان عند الأبرش الكلبي جالساً، فخرجت جارية له عليها حلة، فقال له هشام: مازحها يا أبرش، فقال لها ما أحسن حلتك لو بعتها، أو وهبتها لي. فقالت، والله لأنت أطمع من أشعب، فقال هشام، ومن أشعب؟ قالت رجل من المدينة يضحك الناس، وحدثته من أحاديثه، وأضحكته، فقال هشام: اكتب إلى إبراهيم بن هشام يحمله إلينا، فكتب الكتاب وختمه هشام، ثم مكث ساعة صامت، ثم مرت شفتيه بشيء، ثم قال يا أبرش أمير المؤمنين هشام يكتب إلى بلد رسول الله (صلى الله عليه وسلم يحمل إليك مضحك، ثم قال شعر: [الطويل]
إذا أنتَ لم تعصِ الهوى قادكَ الهوى ... إلى ما فيهِ عليكَ مقالُ
قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام بن عبد الملك، وهو جالس على كرسي إلى جانب بركة له، وفيها رجال من أصحابه في مآزر، فقال لي: كن في مثل حالهم، ففعلت، ثم خرجت فجلست، فتنفس.
ثم قال: يا خالد رب خالد كان يجلس مجلسك هذا، كان أحب إلي منك، فعلمت أنه يعني خالداً ما سألني شيئاً قط، ابتدأ به، وما ازدادني على عظيمة قط، فقلت ذلك أحرى أن تعيده، فقال: إن خالداً أدل فأمل، وأخف فأعجف، ثم أنشد: [الطويل]
إذا انصرفت نفسي عنِ الشيءِ لم تكد ... إليهِ بوجهِ آخرِ الدَّهرِ تقبلُ
قال سعيد بن العاص: موطنان لا اعتذار فيهما من العيّ، إذا كلمت سفيهاً، أو أحمق، وإذا سألت حاجة لنفسي، وأنشد: [الخفيف]
ربَّ، قول يهيجُ منهُ جواباً ... تتمنَّى أن لا تكونَ سمعتهُ
كلَّما خفتَ من سفيهٍ جواباً ... فأطلتَ عنهُ عممتهُ
كتب الحسن بن سهل لرجل كتاب شفاعة، فقام الرجل يدعو، له، ويشكره، فقال الحسن علام تشكرني، ونحن نرى كتب الشفاعات زكاة مروّآتنا وجاهنا، ثم أنشد: [الوافر]
فرضتَ عليَّ زكاةَ ما ملكتْ يدي ... وزكاةَ جاهي أن أعينَ، وأشفعا
فإذا ملكتَ فجدْ فإن لم تستطع ... فاجهدْ بوسعكَ كلّهِ أن تنفعنا
قال رجل لعمر بن عبد العزيز لما أفضي إليه الأمر: والله يا أمير المؤمنين، لأنت أزين للخلافة منها لك، والخلافة إليك أحوج منك إليها، وما مثلك ومثلها إلا، كما قال الشاعر: [الخفيف]
وإذا اللهُ زانَ حسنَ وجوهٍ ... كانَ للدُّرِّ حسنُ وجهكِ زينا
وتزيدُ بنَ أطيبِ الطّيبِ طيباً ... إن تمسّيهُ أينَ مثلكَ أينا
قيل لأفلاطون: أي شيءٍ من أفعال الناس يفعل كفعل الله سبحانه، وتعالى؟ قال: الإحسان إلى الناس. يقال لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة. قال الأحوص: بلغني أن بعض الملوك قال لوزرائه: اجمعوا لي علما فجمعوا له قدر وقر بعير، فقال من يحفظ هذا تجيروا منه كلمات، وهي لا تحملن بطنك ما لا تطيق، ولا تعملن عملاً لست لك فيه منفعة، ولا تتغنّ بامرأة، ولا تغترنّ بمال، وإن كثر.
وقال بعض الحكماء: ثلاث خصال يسود بها المرء: العلم، والعقل، والأمانة. وخصلتان ليست لصاحبها راحة إلا مفارقتهما: الطعام المخوف، والصاحب الخائن. من كلام الفقهاء وحسن استنشادهم وافتخارهم في وقت مناظراتهم. كان العنبري، وهو عبيد الله بن الحسن، ينشد في مجلس نظره:
إذا أفلج على خصمهِ يهتزُّ حينُ ... عن حجة خصمه خوفَ الهضيمةِ كاهتاز
وأنشد أبو بكر بن داود لشريح في آخر كلامه: [البسيط]