وقد سكنت النجوم فهي أنجم, وأعدت في كنانتها فهي للحاجات كالأسهم, وكادت تكون ملائكة؛ لأنها رسل. وإذا نيطت بها الرقاع صارت أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع, وقد باعد الله بين أسفارها, وقربها, وجعلها طيف خيال اليقظة الذي صدق العين وما كذبها.
وقد أخذت عهود أداء الأمانة في رقابها أطواقاً, وأدتها من أذنابها أوراقاً. وصارت خوافي من وراء الخوافي, وعقلت سرها المودع بكتمان وسحبت عليه ذيول ريشها الصوافي, ترغم أنف النوى بتقريب العهود, وتكاد العيون بملاحظتها تلاحظ أنجم السعود.
وهي للطير أنبياء ما تأتي من الأنباء, وله خطباء لأنها تقوم على منابر الأغصان مقام الخطباء.
وقال في وصفها ذو البلاغتين: السيد أبو القاسم شيخ القاضي الفاضل: وأما "الحمام الرسائلي"، فهي من آيات الله المستنطقة الألسن بالتسبيح، العاجز عن وصفها إعجاز البليغ الفصيح, فيما تحمله من البطائق وترد به مسرعة من الأخبار الواضحة الحقائق, وتعاليه في الجو محلقا عند مطاره, وتهديه على الطريقة التي علمها ليأمن من إدراك فوت الإدراك وأخطاره, ونظره إلى المقصد الذي يسرح إليه من علي, ووصوله في أقرب الساعات بما يصل به البريد في أبعد الأيام من الخبر الجلي.
ومجيئه معادلا كرؤوس السفار لعله مسامتاً وإيثاره بالمتجددات فكأنه ناطق وإن كان صامتاً. وكونه يمضي محمولا على ظهر المركوب, ويرجع حاملا على ظهره المكتوب.
ولا يعرج على تذكار الهديل, ولا تكرار الهدير, ولا يسام من الدواب في الخدمة زائداً على التقدير. وفي تقدمه بالبشائر, يكون المعنى بقولهم: " أيمن طائر"، ولا غرو أن فارق رسل أهل الأرض وفاقهم وهو مرسل والعنان عنانه, والجو ميدانه, والجناح مركبه, والرياح موكبه, وابتداء الغاية شوطه, والشوق إلى أهله سوطه, مع أمنه ما يحدث متاعب السفار ومخبآت القفار, من مخاوف الطوارق, وطوارق المخاوف ومتألف الغوائل, وغوائل المتألف, إلا ما يشذ من اعتراض خراج جارح, وانقضاض كاسب كاسر, فتكفيه سعادة الدولة تأمينه, وتصد عنه تصميمه, لأنه أحد جيشيها من الطير اللذين يحدثان في أعدائها: هذا بالإنذار العاجل كيدهم في تضليل, وذاك بما ترى رايتها المنصورة عليهم من تضليل.
[وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر]
وأما الحمام الرسائلي: فكم أغنت المرء عن وجوب القفار, وكم قدت جنونها على أسرى أسرار! وكم أصارت السهام أجنحة فأحسنت بتلك العارية المطار.
وكم قال جناحها لطالب النجاح لا جناح, وكم سرت فحمدت المسار إذا حمد غيرها من السارين الصباح.
وكم ساء وقت الصباح والجنائب, ففارقتها ولم تحوج سلامة المشتاقين إلى متكأ كاهل الرياح.
كم مسبب ملك كلا منها ملك, وكم قال مسرحها لمجيئه بها قرة عين لي ولك.
كم أجملت في الهواء تقلباً, وإذا تغنت الحمائم على الغصون صمتت عن الهديل والهدير تأدباً.
كم دفعت شكا بيقينها, ورفعت شكوى بتبيينها, وكم أدت أمانة ولم تعلم أجنحتها ما في شمالها, ولا شمالها ما في يمينها.
وكم التقت منها الساق بالساق, فأحسنت لربها المساق, وكم أخذت عهود الأمانة فبدت أطواقا في الأعناق, ويقال: "ما تضمنته من البطائق بعض ما تعلق بها في الرياض من الأوراق". تسبق اللمح, وكم استفتح بها البشير إذا جاء بالفتح الطرف السابق, والطرف الرامس الرامق. وما تليت "سورة البروج" إلا وتلت " سورة الطارق" كم أنسى مطارها عدو السلكة والسليك, وكم غنيت في خدمة سلطانها عن الغناء, وقال كل منهم لرفيقه إليك عن الأيك, وقال كل منهما لرفيقه: ما أحوج تصديقهما في رسالتهما إلى الإعزاز بثالث, وكم قيل في كل منهما لمن قام: هذا طائر في خدمة أبناء يافث.
كم سرح مسرحا بإحسان, وكم طار في أفق فاستحق أن يقال لهما: " فارسا سحاب" إذا قيل لغيرهما: "فارسا رهان"، حاملة علم من هواء علم به منها.
تغني السفار والسفارة فلا تحوجهم إلى الاستغناء عنها, تغدو وتروح, وبالسر لا تبوح, فكم غنيت باجتماعها بإلفها عن أنها تنوح.
كم سارت بأمر سلطانها أحسن السير, وكم أفهمت أن ملك سليمان إذا سخر له منها في مهماته الطير, أسرع من السهام المفوقة, وكم من البطائق مخلقة وغير مخلقة.
كم ظللت من كيد, وكم بدت في مقصورة تصبح في السناء والسنا دونها "مقصورة ابن دريد".