للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قتل الإنسان ما أكفره! لو أن غنيا فقد جبلا من الذهب وأصاب رغيفا يتبلغ به لكان ذلك أيسر في مذهب الإنسانية من أن يذهب البائس المعدم فيتكفف الأبواب ويستكف الناس ثم لا يتخلص منهم رغيفا يمسك به الرمق على نفسه ويقيم منه بابا حاجزا يمنع الجوع أن يدخل إليه الموت وأن يخرج منه الروح، ولكن مصيبة الإنسانية في أهلها أن الله لم يخلق إلا صنفا واحدا من الناس، على أن كل إنسان يظن أنه ذلك الصنف الواحد ... فالغني إذا تصور الفقر وهو لا يزال في غناه، لا يتوهم إلا اختلال نظام الأقدار، واضطراب حركتي الليل والنهار، بعد أن يهوي كوكب سعده الذي يسك من كل ذرة في أشعته دينار ... وهو لا يرى بهذا الفقر إلا نقمة هابطة من السماء ولعنة صاعدة من الأرض قد التقتا عند رأسه الشامخ في جو كبريائه فاصطدمتا به فإذا هو مكب لليدين وللفم عند أقدام الناس وإذا هو فقير! هذا هو الفقر في أوهامهم، ولكن لا تنسى أنه فقرهم فقط ... فقر المال المترابط في مكانه أو الذاهب في حلوق الأرض وبين أضلاعها، أما سائر الناس فهم عند هؤلاء أهل باطل ودعوى، يزنون بكل ريبة، ويقرفون بكل تهمة، إذ ينتحلون الفقر ويدعونه ليعادوا نعمة الغني بالحسد، فالجوع فقر، والمرض فقر، والتعب فقر، والضجر فقر، واشتهاء ما ليس لهم فقرا، وقلة الأصحاب فقر، وحتى ولو أن أحدهم سخطته زوجه لنسب ذلك إلى الفقر، وبالجملة فكونهم ليسوا كالأغنياء هو الفقر.

فإذا كان الفقر كل شيء عند هؤلاء الحمقى فما هو الشيء الذي يسمى الفقر؟ من أجل ذلك يا بني ترى الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم وهم أنفسهم لا يخشون منه على الفقير، لأن هذا الفقير برأيهم قد أصبح شخصا أخر لا صلة لهم به ولا عهد، فهو يكذب على الحوادث والحوادث تكذب عليه، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فإذا انخدعوا له بمقدار ما يتعجبون من سخافته، وإذا أعطوه كان العطاء سخيفا بمقدار ما ينخدعون، ولا ينظرون لأثر الله عليه ولكن لأثره على نفسه، إذ الحقوق عندهم حقوق إنسانية، فهيهات يختلج في نفس أحدهم أن لو شاء الله لوضعه في ثياب هذا الفقير ولوضع الفقير في ثيابه.

أترد مثل هذا الغني الجلف المتسكع إلى الدين؟ إنه هو في نفسه دين وشريعة أيضا ... أتبصره بالإنسانية؟ فمن هو إذا ويلك إن لم يكن من صميم هذه الإنسانية وعين أهلها بل إنسان هذه العين! أما الحق فاذكر بربك أمواله تعلم أن"الحق في يده" ... هكذا يعطى المال أهله حتى فضائل غيرهم، ويسلب الفقر أهله حتى محاسن أنفسهم، وهكذا لا تجد المال أبدا إلا نعمة ناقصة، ولن تتم هذه النعمة إلا إذا رزق الإنسان مع الغنى أخلاقا تكفيه شر الغنى، ومن أجل هذا كان من الأمور الطبيعية أن تجد العقل في إنفاق المال أشد ارتباكا منه في جمع المال.

قال "الشيخ علي": ولابد من صلة معنوية بين جميع الناس على ما يكون بين الإنسان والإنسان من التباين والاختلاف في كل شيء، حتى بين الأخوين تلدهما الأم الواحدة، وهما مهما اتفقا في الحياة ومظاهرها فإنهما لا بد مفترقان افتراق الثديين اللذين ارتضعا منهما الحياة، فما عسى أن تكون هذه الصلة العامة بين الناس؟ تقول الشرائع أن الصلة التي تجمع بين الناس بعضهم ببعض هي العدل! وتقول العلوم إنها العقل، وتقول الآداب أنها شيء من العدل والعقل يكون الإنسانية في الضمير، وتقول الحياة أنها سبب الإنسانية وهو الرحمة، ثم يرعد صوت إلهي يقصف من جهة السماء التي هي مصدر العقل والعدل والإنسانية والرحمة فيصيح بكل ما في هذه الأشياء من القوة ويقول: كلا! بل هو سبب الرحمة ومظهر الإنسانية، وكمال العقل، وفضيلة العدل، وهو الفقر!

<<  <   >  >>