للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ولعمري ما الذي يجعل الفرد جبانا في لقاء الحوادث حتى يخاف الحياة فيعوذ بالموت، ويضرب ما أقبل من الدنيا بالذي هو مدبر، أو يخشى الموت فيتعذب بالحياة ما أدبر منها وما أقبل؟ أما إن ذلك ليس من فقر ولا غنى، ولكنه حرص على الحياة يخالط بعض الأنفس ويستمكن منها حالة بعد حالة، فإذا هو انقلب في آخرة الأمر خوفا من الموت، ثم لا يزال يحور وينمي وهو ذلك يخلع القلب من الإيمان الذي يربط عليه واليقين الذي يثبت به، حتى يبلغ بعد حين أن يكون خوفا من الموت، ورجع الخوف من الموت مع ذلك البلاء خوفا من الحياة، فهذه أصلحك الله حالة من الجنون تستلب العقل، وسواء من أصيب بها ومن خولط في عقله، وليس معها هؤلاء الضعفاء كما يشهدون على أنفسهم إلا موت الجبن الذي يسمى انتحارا، أو حياة الجبن التي تسمى ذلا. ولخير للمرء أن يكون حمارا من صنعة الله وتعرفه الحمير، من أن يكون حماراً من صنعة نفسه وتنكره الناس....

إن لنا على هذه الأرض حياة واحدة علم أهل العلم إنها حقيقة مسرعة بين أوهام، فهي ما تبرح تجاهد كل شيء ولا تثبت أطول من مدة جهادها إلى أمد غايته أرذل العمر، وعرف أهل الجهل أنها تتقدم إلى الموت وأن الموت يتقدم إليها فهما لا بد ملتقيان. لا العلم ولا الجهل يرتاب أو يشك في الموت. ولا الفقر ولا الغنى، ولا الصحة ولا المرض ولا شيء عن خصائص الأحياء، لأنه ليس على الأرض حي قديم ... ولكن العالم والجاهل، والفقير والغني، والصحيح والمريض، كل هؤلاء يخافون الموت ويحرصون على الحياة إلا قليلا منهم، فليتهم علموا أن النفس روحية وأنها تألم لهذا الخوف ولا تقار عليه، إذ هي لا تعرف الموت لأنها خالدة، ولكنها تعرف الألم لأنها في غير دار الخلود، ومعنى ذلك أن الإنسان يخاف الموت، فيصل الخوف بالنفس، فتردها إلى حوادث الحياة فتخفيه هذه الحوادث فيذله هذا الخوف، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.

ونحن إنما ننصب الحبالة ثم نرتبك فيها ونضطرب فيها فكأننا لا نصيد إلا من أنفسنا، إذ لسنا نجهل أن للنفس حظا ليس للجسد، وأن الفارس لا يربط في الإصطبل وإن كان جواده فيه، غير أننا مع ذلك نحاول أن نغدو النفس من اللذة الجسمية، وأن نعلف الفرس والفارس من طعام واحد ... فهذا التناقض الذي نسيء به إلى أنفسنا هو الذي يجعل النفس خائفة من الحياة إذ لا تجد فيها غير ألم التعبد للأهواء والشهوات، ولا يصيب من الحياة إلا ما تستذم به الحياة إليها، فلا يكون من ذلك إلا أن تسيء إلينا هذه النفوس بتناقض آخر، فربما كان الرجل في النعمة السابغة قد أينعت خضراؤها ثم هو لا يشعر منها إلا ما يشعر من المصيبة الماحقة، ومتى فزعت النفس من الحياة كما عرفت فلا هناءة على ذلك الفزع، ولا تكون الحياة من ثم إلا موتا مستمرا أو خوفا من الموت لا ينقطع.

قال "الشيخ علي": يا بني إن الحرص جبن، والجبن ذل، والذل استعباد، وما يدخل من هذه الأبواب إلا الشر، فكن حرا من الأهواء كما خلقت وكما خلقت الحرية التي لا قيد لها من رذائل الدنيا، فإنك لن تراع ولن تعرف مما يسميه الناس تعاسة أكثر مما تعرف مما يسمونه سعادة، ولن تجد في مصائب الحياة ما يموت دونه الصبر الجميل، فإن عمر هذا الصبر أطول أبدا من عمر الصابرين! لذلك لا يغضب الفيلسوف ولا يخاف الشجاع، ولا يبخل الكريم، ويذل الأنوف، ولا ينافق الرجل الحر، ولا يكذب الرجل الشريف، وإنما هذه مظاهر محدودة من حرية النفس، فكيف بالنفس إذا كانت حرة من كل أقطارها؟ وقديماً علم الناس أن من لا يبالي بشهوات جسمه هو الذي يستريح وداعا ويتعب التعب في البحث عنه، وما علمت ولا علم الحكماء والأطباء غذاء تسمن عليه المصائب والأحزان إلا الحرص على الشهوات!

<<  <   >  >>