للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دونك آمال الناس فانظر هل تجد في هؤلاء الحمقى من يصب آماله إلا في قالب يسع ضعفيه على الأقل، وهو يحسب أنه بتوسيعه لها يخفي جانب الاستحالة فيها ولا يدري أنه يخفي جانب الممكن المعقول أيضا ... ، يصبها في قالب التمني، وما موضع التمني في عالم الحس وفي هذه الحياة الأرضية التي لا تزال تضرب جيلا بجيل، وتدفن قبيلا بأيدي قبيل، ويهملها الإنسان في الكثير وهي لا تهمله في القليل؟ وهل التمني أن تكون حوادث الحياة ما أريد أنا وما تريد أنت وما يريد فلان، إلا كما يتمنى كل إنسان من هؤلاء أن تكون غير نفسه، وكما يتمنى الطفل حين يجيب معلمه خطأ ويعلم أنه أخطأ أن يكون الجواب حقيقة كما أخطأ..؟ وقد يقال إنه ليس في العلماء أحمق ممن يكد ذهنه في ابتكار جواب غريب لمسألة لا تقع لإنسان ولا يحتاج أحد إلى جوابها، فكذلك لم أرى في الجهلاء أحمق ممن يسأل الحياة سؤالا لا جواب عليه أو لا يفهم الجواب عليه، كل ذلك حمق، وكل ذلك سخف، وكل ذلك عبث باطل، ولكن يا أسفا على الناس! كل ذلك من مذاهب الحياة، وكل ذلك من الواقع! فالناس من بين طامع جريء إن نفعته الجرأة ذهب بمنفعتها الطمع، وقانع ساكن إن أفادته القناعة ذهب بفائدتها السكون، ومتحيل على الغيب يستجمع له والواقع قد نفذ فيه، ومتبرم بحاضره يبني على السماء والأرض تهدم منه، وقليل من الناس المؤمن الوثيق الذي يشعر بقوة الله في كل ضيق، فإن لم ينصره الله على الحياة لا يخذلها فيها، وتراه لا يشك فيما يعرف ولا يريد أن يعرف ما يشك فيه، وهو يعلم أنه ليس شيء من المصائب والنعم يمكن أن ينزل في غير موضعه المهيأ له، إذ ليس في هندسة الله مكان مختل، وأن النعمة الصحيحة ليست في لذات الإنسان الحي ولكن في حياة هذا الإنسان، إذ الحياة صحيحة هي التي توجد اللذة، وأن القوة التي تسمو بالحياة حتى تسخر لها الطبيعة تسخيرا إنما هي قوة العقل، فإن وهن العقل صارت الحياة طبيعة حيوانية لا لذة فيها ما خص به الإنسان دون الحيوان من روح الله، بل تكون اللذة كل اللذة هي فقدان الألم أو إطفاءه إن تسعر.

وتالله لو أفرغت طيبات الدنيا في جوف هذا الحيوان الإنساني الذي وصفت لك ممن يسمونهم الأغنياء والمستمتعين وأهل الحظ والهناءة، ما زادت في لذته على ما يكون من إفراغ حقل من البرسيم في جوف حمار..! قال "الشيخ علي": وكما يفقد أكثر الناس السعادة في كثرة الاستعداد لها والإغراق في وسائلها، يجدها بعضهم في إهمالها حين لا يبحث عنها باحثا عن حقيقة الحياة.

ويا عجباً للناس! كأنهم ملكوا الأعمار، وضمنوا لأنفسهم دولتي الليل والنهار، فقلما يفكر أحدهم إلا في زاد الدهر البعيد والحياة المتطاولة والأمد الواسع، وهو لا يرتاب في أ، هـ لا يعيش غير عمر واحد محدود، ولكنه لا يدري أنه يحمل على نفسه من تلك الأطماع شقاء بضعة أعمار طويلة عالية السن ويسوقها بين يديه ظالعة عرجاء تطلب السعادة في طريق لا آخرة له، فهي تسير لأن بين يديها غرضا ما ينفك ماثلا على بعد منها، ثم تنبعث لأن الطريق لا تنتهي، ثم تقف عاجزة لأن الحياة قد كلت، ثم تقع وما بها حركة لأنه انتهت إلى الحفرة المجهولة التي تنشق تحت قدمي كل إنسان في الساعة التي هو رهن بها ولو كان طريقه في النعم واللذات على وادي الجنة بين الشمس والقمر! كل شيء ما شئت أن تتوهم، ولكن الحياة هي الحياة: هي الحقيقة التي تريد أن تعرف، والمدة التي تعمل أن تنقضي، والمعنى الذي تطير حوله الأقدار وتقع لتلتف الناس إليه، هي الحياة التي لا تتسع لأكثر من قضاء الواجبات، ولا تحمل جسدها إلا ريثما تبليه، واسمه الحياة ومعناها النجاح، وهي الحياة لا المال، والحياة لا الشهوات، والحياة لا المطامع، وإنما قيمة الحياة فيما نذهب لا فيما يذهب بها، فكل لذة لا تجد لروحك أثرا فيها لذة ميتة، وحقيق بك عندها أن تحسب أن شيئاً من عقلك أو من فضيلتك قد مات فيها.

<<  <   >  >>