للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ثمَّ إِنَّا قد علمنَا أَن الشَّيْطَان مُحكم لأسباب فَسَاده ووسواسه أَشد الاحكام مَعَ أَنه فِي غَايَة الْقبْح لخلوه عَن الْحِكْمَة وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ أحكموا حربهم وسبهم للأنبياء وَقَالُوا فِي ذَلِك القصائد المحكمة وَإِنَّمَا قبح ذَلِك كُله وسخف قَائِله لِخُرُوجِهِ عَن الْحِكْمَة فَكيف يرد اسْم الْحَكِيم إِلَى مثل ذَلِك

وَقد نقل تَفْسِير الْحَكِيم بالمحكم من لم يفهم هَذِه الغائلة من شرَّاح الاسماء الْحسنى حَتَّى نَقله الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره ومصنف سلَاح الْمُؤمن وَأما ابْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة فَنقل التفسيرين مَعًا وَأما الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الْأَسْنَى فانه اتَّقى فِيهِ من الْمُخَالفين بِغَيْر شكّ لِأَنَّهُ صرح بمخالفتهم فِي شرح الرَّحْمَن الرَّحِيم لكنه تلطف فِي إخفاء الْمُخَالفَة على الْأَكْثَرين بِكَوْنِهِ جعلهَا فِي الْموضع الَّذِي لم يشْتَهر فِيهِ الْخلاف بَينهم وَبَين خصومهم وَهُوَ تَعْظِيم رَحْمَة الله تَعَالَى وسعتها وَقد أَشَارَ إِلَى مُخَالفَة الْأَكْثَرين للحق فِي خطْبَة هَذَا الْكتاب بل صرح بذلك وَأَيْضًا فَيلْزم أَن لَا يكون الْجُود وَنَحْوه أولى بِاللَّه من أضدادها وَأَيْضًا كل مَقْدُور مُمكن الْوُجُود والبقاء على الْعَدَم وَلَا يتَرَجَّح أحد الممكنين إِلَّا بمرجح وَلَا مُرَجّح إِلَّا الدعي وَأَيْضًا فَيلْزم أَن لَا يحْتَاج الْمُتَشَابه إِلَى تَأْوِيل

وَمن ذَلِك أَنه يتَعَذَّر على من نفى حِكْمَة الله تَعَالَى أَن يقطع على صدقه سُبْحَانَهُ وَصدق رسله الْكِرَام عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا تقدّمت الاشارة اليه وَهَذَا مَبْسُوط فِي كتب الْكَلَام وَلَا يَصح لَهُم عَنهُ جَوَاب إِلَّا مَا يلْزمهُم مَعَه ثُبُوت الْحِكْمَة فِي الافعال والاقوال مَعًا كَمَا تقدم

وَمن ذَلِك أَنهم إِنَّمَا أَن يحسنوا نفي الْحِكْمَة بِغَيْر حجَّة أَو لَا يحسنوه إِلَّا بِحجَّة إِن حسنوه بِغَيْر حجَّة أكذبهم قَوْله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَإِن لم يحسنوه إِلَّا بِحجَّة اعْتَرَفُوا بالتحسين الْعقلِيّ

وَمن ذَلِك أَنهم اعْتَرَفُوا بِأَن الْعقل يعرف الْحق من الْبَاطِل فَيُقَال لَهُم فاذا تقرر ذَلِك فالمعلوم فِي الْفطر تَرْجِيح الْحق على الْبَاطِل وَقد اجْتَمَعنَا فِي الاقوال على تَرْجِيح الصدْق على الْكَذِب بِخُصُوصِهِ وَالصَّوَاب تَرْجِيح الْحق على الْبَاطِل بِعُمُومِهِ فِي الافعال كالأقوال وَالله يحب الانصاف

<<  <   >  >>