للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْفَصْل الثَّانِي عشر فِي الْإِكْرَاه

وَهُوَ عبارَة عَن تهديد الْقَادِر غَيره على مَا هدده بمكروه على أَمر بِحَيْثُ يَنْتَفِي بِهِ الرِّضَا

وَفِي المنبع الْإِكْرَاه نَوْعَانِ نوع يرجع إِلَى الْمُكْره وَنَوع يرجع إِلَى الْمُكْره أما الَّذِي يرجع إِلَى الْمُكْره فَهُوَ أَن يكون الْمُكْره قَادِرًا على تَحْقِيق مَا هدد بِهِ لِأَن الضَّرُورَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا عِنْد الْقُدْرَة على الايقاع فَإِنَّهُ إِذا لم يكن قَادِرًا على الْإِكْرَاه يكون هذيانا وَفِي هَذَا الْمَعْنى لَا فرق بَين السُّلْطَان وَغَيره هَذَا على مَذْهَبهمَا ظَاهر لتحَقّق الْإِكْرَاه من السُّلْطَان وَغَيره وَأما على مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى فقد قيل إِنَّه لَا يتَحَقَّق الْإِكْرَاه الا من السُّلْطَان أَي من السُّلْطَان الْأَعْظَم لِأَن الْقُدْرَة لَا تتَحَقَّق الا من السُّلْطَان وَقيل انه يتَحَقَّق مِمَّن يملك الْحُدُود وَالصَّحِيح أَن الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك اخْتِلَاف عصر وزمان لَا حجَّة وبرهان لِأَن زمَان أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى لم يكن لغير السُّلْطَان من الْقُوَّة مَا يتَحَقَّق بِهِ الْإِكْرَاه فَأفْتى على حسب مَا عاين وَفِي زمانهما ظهر الْفساد وَصَارَ الْأَمر إِلَى كل متغلب فتحقق الْإِكْرَاه من الْكل

وَفِي البزازي نفس الْأَمر من السُّلْطَان بِلَا تهديد إِكْرَاه لِأَنَّهُ لَو لم يمتثل يُعَاقِبهُ وَقَالا إِن كَانَ الْمَأْمُور يعلم أَنه لَو لم يفعل مَا قَالَه السُّلْطَان يُعَاقِبهُ كَانَ أمره لَهُ بِالْفِعْلِ إِكْرَاها

وَفِي الْبَدَائِع الْبلُوغ وَالْعقل والتمييز الْمُطلق لَيْسَ بِشَرْط لتحَقّق الاكراه حَتَّى يتَحَقَّق من الصَّبِي الْعَاقِل إِذا كَانَ مُطَاعًا مسلطا وَمن الْبَالِغ الْمُخْتَلط الْعقل إِذا كَانَ مُطَاعًا مسلطا للقدرة على الايقاع وَأما النَّوْع الَّذِي يرجع إِلَى الْمُكْره فَهُوَ أَن يكون فِي غَالب رَأْيه أَنه لَو لم يجب إِلَى مَا دعِي إِلَيْهِ تحقق مَا أوعد بِهِ لِأَن غَالب الرَّأْي حجَّة يعْمل بِهِ خُصُوصا عَنهُ تعذر الْوُصُول إِلَى الْيَقِين حَتَّى لَو كَانَ فِي أكبر رَأْيه أَن الْمُكْره لَا يُحَقّق مَا أوعده بِهِ لَا يثبت حكم الاكراه شرعا وَإِن وجدت صُورَة الإيعاد لِأَن الضَّرُورَة لم تتَحَقَّق وَمثله لَو أمره بِفعل وَلم يوعده عَلَيْهِ وَلَكِن فِي أكبر رَأْي الْمُكْره أَنه لَو لم يفعل يتَحَقَّق مَا أوعد بِهِ فَثَبت حكم الاكراه لتحَقّق الضَّرُورَة وَلِهَذَا لَو كَانَ فِي أكبر رَأْيه أَنه لَو امْتنع عَن تنَاول الْميتَة وصبر إِلَى أَن يلْحقهُ الْجُوع المهلك لأزيل عَنهُ الاكراه لَا يُبَاح لَهُ التَّنَاوُل فِي الْحَال وَإِن كَانَ فِي أكبر رَأْيه أَنه لَو صَبر إِلَى تِلْكَ الْحَالة لَا يَزُول عَنهُ الاكراه يُبَاح لَهُ التَّنَاوُل فِي الْحَال فَدلَّ أَن الْعبْرَة لغالب الرَّأْي وأكبر الظَّن دون صُورَة الإيعاد

وَفِي الْهِدَايَة وَإِذا أكره على بيع مَاله أَو شِرَاء سلْعَة أَو على أَن يقر لرجل بِأَلف أَو يُؤجر دَاره فأكره على ذَلِك بِالْقَتْلِ أَو بِالضَّرْبِ الشَّديد أَو بِالْحَبْسِ فَبَاعَ أَو اشْترى فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أمضى البيع وَإِن شَاءَ فَسخه وَرجع بِالْمَبِيعِ لِأَن من شَرط صِحَة هَذِه الْعُقُود التَّرَاضِي قَالَ الله تَعَالَى {إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم} وَالْإِكْرَاه بِهَذِهِ الْأَشْيَاء بِعَدَمِ الرِّضَا فتفسد بِخِلَاف من إِذا أكره بِضَرْب سَوط أَو حبس يَوْم أَو قيد يَوْم لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بهَا بِالنّظرِ إِلَى الْعَادة فَلَا يتَحَقَّق بِهِ الاكراه الا إِذا كَانَ رجلا صَاحب منصب يعلم أَنه يتَضَرَّر بِهِ فَإِنَّهُ يفوت الرِّضَا

وَفِي الْوَلْوَالجيّ إِذا كَانَ الرجل من الْأَشْرَاف أَو من الأجلاء أَو من كبراء الْعلمَاء أَو الرؤساء بِحَيْثُ يستنكف عَن ضرب سَوط أَو حبس سَاعَة لم يجز إِقْرَاره لِأَن مثل هَذَا الرجل يُؤثر ألف دِرْهَم

<<  <   >  >>