للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقد رد شيخ الإسلام على هذا الاستدلال من عشرة أوجه، منها:

أ- أن هذا إنما دل على نفي أن يكون جسدا، والجسم في اصطلاح نفاة الصفات أعم من الجسد.

ب- أن الله منزه أن يكون من جنس شيء من المخلوقات، من بني آدم أو من الحيوانات أو غيرها، والله تعالى ذكر أن العجل كان جسدا بمعنى أنه لا حياة فيه - وقد قيل إنه خار خورة - والمقصود أنه كان مسلوب الحياة والحركة، وهذا أشد في النقص. ولو أخرج لهم عجلا كسائر العجول، أو آدميا أو فرسا حيا لكان أيضا له بدن وجسم، ولكانت الفتنة به أشد.

ت- أن الله تعالى قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف: ١٤٨] "فلم يذكر فيما عابه كونه ذا جسد، ولكن ذكر فيما عابه به أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيبا ونقصا لذكر ذلك، فعلم أن الآية تدل على نقص حجة من يحتج بها على أن كون الشيء ذا بدن عيبا ونقصا. وهذه الحجة نظير احتجاجهم بالأفوال فإنهم غيروا معناه في اللغة، وجعلوه الحركة، فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين، ولو كان كما ذكروه لكان حجة عليهم لا لهم" (١).

ث- أن الله ذكر أن العجل كان جسدا، وأن له خوارا، والخوار هو الصوت، وخوار الثور صوته، فلو كان الصوت لبيان نقصه لذكره مع الجسد، ولبطل الاستدلال بآخر الآية وهي قوله {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: ١٤٨]، فإن تكليمه لو كلمهم لكان بصوت يسمعونه.

فعلم أن التصويت لم يكن صفة نقص فكذلك ذكر الجسد. فصارت الآية دالة على نقيض قولهم.

ج- "أن الله تعالى ذكر عن الخليل - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢)} [مريم: ٤٢]، وقال تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)} [الشعراء: ٧٢ - ٧٤] فاحتج على نفي إلهيتها بكونها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، مع كون كل منهما له بدن وجسم، سواء كان حجرا أو غيره.

فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافيا لذكره إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، بل إنما احتجوا بمثل ما احتج الله به من نفي صفات الكمال عنها: كالتكلم والقدرة والحركة وغير ذلك" (٢).

و"أنه إذا كان كل جسم جسدا، وكل ما عبد من دون الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب والأوثان وغير ذلك: أجساما، وهي أجساد فإن كان الله ذكر هذا في العجل لينفي به عنه الإلهية: لزم أن يطرد هذا الدليل في جميع المعبودات. ومعلوم أن الله لم يذكر هذا في غير العجل، إنما ذكر كونه جسدا لبيان سبب افتتانهم به، لا أنه جعل ذلك هو الحجة عليهم، بل احتج عليهم بكون لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا" (٣).

ي- أن أدلة الكتاب والسنة على إثبات العلو والاستواء أكثر من أن تحصر، ودلالتها على ذلك جلية بينة مفهومة، وحينئذ فيقال:

- إن كان إثبات هذا يستلزم أن الله جسم وجسد، لم يمكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر من قصة العجل، لأن ليس فيها أن كونه جسدا هو النقص الذي عابه الله وجعله مانعا من إلهيته.

- وإن كانت إثبات الاستواء والعلو لا يستلزم أن يكون الله جسدا أو جسما، بطل أصل استدلالهم على أن إثباتهم يقتضي التجسيم (٤).


(١) انظر: مجموع الفتاوى (٥/ ٢٢٠).
(٢) انظر: المصدر السابق (٥/ ٢٢٢).
(٣) مجموع الفتاوى (٥/ ٢٢٣).
(٤) انظر عما سبق من الأوجه وغيرها، مجموع الفتاوى (٥/ ٢١٣ - ٢٢٥).

<<  <   >  >>