وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ، وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} ، وقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} . ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغب الله في الإصلاح بينهم، كما قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} . وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة". وخرج الإمام أحمد وغيره من حديث أسماء بنت يزيد عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "ألا أنبئكم بشراركم؟ " قالوا: يا رسول الله، قال: "المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون البراء العيب". وأما البغض في الله فهو من أوثق الإيمان عرى، وليس داخلًا في النهي، ولو ظهر لرجل من أخيه شر فأبغضه عليه وكان الرجل معذورًا فيه في نفس الأمر أثيب المبغض له وإن عذر أخوه كما قال عمر: "إنا كنا نعرفكم إذ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بين أظهرنا، وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قد انطلق به وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما نخبركم، ألا من أظهر منكم لنا خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن أظهر منكم شرًّا ظننا به شرًّا وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم تعالى". وقال الربيع بن خثيم: لو رأيت رجلًا يُظهر خيرًا ويسر شرًّا أحببته عليه آجرك الله على حبك الخير، ولو رأيت رجلًا يظهر شرًّا ويسر خيرًا بغضته عليه، آجرك الله على بغضك الشر. ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورًا، وقد لا يكون معذورًا؛ بل يكون متبعًا لهواه مقصرًا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيرًا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعًا، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه، فهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى والألفة أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهي عنه من البغض المحرم. "جامع العلوم والحكم ص٣٩٩-٤٠١". ٣ قوله: "ولا تدابروا" قال أبو عبد الله: التدابر: المصارمة والهجران، مأخوذ من أن يولي الرجل صاحبه دبره ويُعرض عنه بوجهه، وهو التقاطع. وخرج مسلم من حديث أنس عن النبي -صلى الله =