وإنما حرم عليه أن يمنع فضل الماء دون فضل الكلأ؛ لأن الكلأ لا يستخلف عقيب أخذه، وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف، فتهلك ماشيته والماء يستخلف عقيب أخذه، وقد يقال: إن ما ينقص من الدلو، والحبل لا يستخلف، فتضرر والضرر لا يزال بالضرر، وإنما وجب بذله للماشية دون الزرع لحرمة الروح.
ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع؛ لأن الزرع لا حرمة له في نفسه، والماشية لها حرمة في نفسها، ولهذا لو احتاج الزرع لم يلزمه سقيه، ولو احتاجت الماشية لزمه سقيها.
وإن لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: علق الوعيد على منع الفضل؛ ولأن ما لا يفضل عن حاجته يتضرر ببذله، والضرور لا يزال بالضرر.
حكم ماء البئر المحفورة بموات:
لا يخلو الأمر من أن يكون الحافر لهذه البئر قد حفرها لارتفاق نفسه، ومصلحته الخاصة دون قصد ملكيتها، وإما أن يكون قد حفرها لارتفاق المارة، أو لا بقصد نفسه ولا المارة.
فإن حفرها لارتفاق نفسه، فهو أولى بمائها من غيره فيما يحتاجه منه لشربه، أو شرب دوابه، أو لسقي زرعه لسبقه إليه، ويظل له هذا الحق إلى أن يرتحل عنها لحديث:"من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به"، فإن ارتحل عنها بطلت أحقيته.
هذا إذا ارتحل معرضًا أما لو كان لحاجة، وارتحل عازمًا العودة، فلا يسقط إلا أن تطول غيبته، فليس المناط هو الارتحال بل الإعراض حتى لو أعرض، ولم يرتحل كان الحكم كذلك.