ولكني أقول: إن تأخير العمل عن الركنية في الإيمان، قد قال به أبو حنيفة ولا ريب وهو أحد أنواع الإرجاء وأبو حنيفة بهذا المعنى، وهو ما يُسمِّيه أصحابه، ومن ذهب مذهبه إرجاء السنة، أي أن السنة تدل عليه، فلا ضير فيه على رأيهم.
لكن الإرجاء الذي عُرف بالذم بين جميع الطوائف الإسلامية هوما تقدم تقريره من أنه إعطاء العاصي الرجاء، وإطماعه في عفو الله، بجعله في حل مما يقول وما يفعل، وذلك لقول أصحابه:" لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة ". وأبو حنيفة وإن خالف السلف بتأخيره العمل عن الركنية في الإيمان فإنه لم يدْعُ برأيه هذا أرباب الشهوات، لإشباع شهواتهم، وتحقيق رغباتهم، باللعب بالمحظورات، وانتهاك أستار الشريعة الإسلامية الغرّاء. كما فعل المرجئة الذين رفعوا اللوم عن العصاة وفتحوا لهم الطريق إلى هتك محارم الله، دون خشية من عقاب الله تعالى، إذ أن الإنسان في حل مما يفعل، فلا تثريب عليه أبداً إذا هو اتصف بالإيمان، الذي هو عبارة عن التصديق عندهم فحسب. وأبو حنيفة، حاشاه أن يقول بهذا القول، أو يقف ذلك الموقف. فلا يجوز لنا أن نَصِفه بالإرجاء المطلق، لأن الإرجاء الذي يتبادر إلى الذهن، هو ذلك القول الذي لا يقول به مسلم أبداً.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن أبا حنيفة قال بخلاف ما قال به السلف حيث جعلوا العمل ركناً في الإيمان، أما أبو حنيفة فأخره عن الركنية، لكنه لم يهمله كما أهمله المرجئة. فنحن نعلم جميعاً أنه ـ رحمه الله ـ إمام جليل برع وبرز في مجال تقرير التشريعات العملية، ومذهبه في الفقه الإسلامي يُعتبر أوسع المذاهب فقد أفنى عمره في سبيل بيان الواجب والمحرم، والمستحب والمباح. وفي هذا المجال يقول الشهرستاني مدافعاً عن أبي حنيفة: " ... كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه مرجئة السنة، وعدَّه كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة ولعلَّ السبب فيه أنه لما كان يقول: الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص، ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان والرجل مع تخريجه في العمل، كيف يفتي بترك