عرب خلص أكثرهم أميون لا يقرؤون ولا يكتبون فكل اعتمادهم على ملكتهم في الحفظ وقوة شأنهم فيه، واعتبر ذلك بحالهم في الجاهلية فقد حفظوا أنسابهم ومناقبهم وأشعارهم وخطبهم وكثيراً ما كانت تقع بينهم المفاخرة بالأنساب والأحساب فلا يسعفهم غير اللسان يثيرون به ما حفظوه من أخبارهم وأخبار خصومهم مما يرفع من شأنهم ويحط من شأن أعدائهم، فكان كل امرئٍ منهم على مقدار حفظه وقوة وعيه ترجمان قبيلته يرفع من قدرها ويتحدث عن مفاخرها وأحسابها والقوم من ورائه كأنهم سجل مليء بالحوادث والأخبار وكتاب شحن بالتواريخ والآثار، ساعدهم حبهم للتفاخر بالأحساب والأنساب والتنابز بالمثالب والألقاب مع ما رسخ فيهم من عصبية قبلية على إجادة الحفظ والضبط ونشاط في الذاكرة لم يتوافر في أمة من الأمم.
وكأن الله تعالت قدرته هيأ هذه الأمة العربية على هذا الاستعداد الهائل إرهاصاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكانت هذه الصدور الحافظة مهدا لآي الذكر الحكيم، وكانت هذه القلوب الواعية أوعية لحديث النبي الكريم فاندفع هؤلاء الصحابة الأجلاء إلى تلقي حديث رسول الله بِنَهَم عظيم وشوق كبير، وأظهر الله بهم دينه على الدين كله، وكان أمر الله قدراً مقدورا.
نعم تظاهر هذان العاملان ... العامل الروحي والعامل الفطري فأتى القوم بمالم تأت به أمة من يوم أن بعث الله تعالى رسله إلى الخلق فحفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم واتخذوا شريعته نبراساً في أمر معاشهم ومعادهم وبلغوها إلى الناس على وجهها غضةً طريةً.