وَبِالنَّهْرِ الْيَابِسِ الَّذِي كُلَّمَا كَانَ أَعْرَضَ وَأَعْمَقَ كَانَ أَشَدَّ لِوُعُورَتِهِ، وَبِالْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ الْمُعَطَّلَةِ الَّتِي كُلَّمَا طَالَ خَرَابُهَا ازْدَادَ نَبَاتُهَا غَيْرَ الْمُنْتَفَعِ بِهِ الْتِفَافًا وَصَارَ لِلْهَوَامِّ مَسْكَنًا.
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: مَا نَحْنُ إلَى مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَوَاسِّنَا مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ بِأَحْوَجِ مِنَّا إلَى الْأَدَبِ الَّذِي هُوَ لِقَاحُ عُقُولِنَا، فَإِنَّ الْحَبَّةَ الْمَدْفُونَةَ فِي الثَّرَى لَا تَقْدِرُ أَنْ تَطْلُعَ زَهْرَتُهَا وَنَضَارَتُهَا إلَّا بِالْمَاءِ الَّذِي يَعُودُ إلَيْهَا مِنْ مُسْتَوْدَعِهَا. وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ الْعَقْلُ بِلَا أَدَبٍ كَالشَّجَرِ الْعَاقِرِ، وَمَعَ الْأَدَبِ دِعَامَةٌ أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا الْأَلْبَابَ، وَحِلْيَةٌ زَيَّنَ اللَّهُ بِهَا عَوَاطِلَ الْأَحْسَابِ، فَالْعَاقِلُ لَا يَسْتَغْنِي وَإِنْ صَحَّتْ غَرِيزَتُهُ، عَنْ الْأَدَبِ الْمُخْرِجِ زَهْرَتُهُ، كَمَا لَا تَسْتَغْنِي الْأَرْضُ وَإِنْ عَذُبَتْ تُرْبَتُهَا عَنْ الْمَاءِ الْمُخْرِجِ ثَمَرَتُهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْأَدَبُ صُورَةُ الْعَقْلِ فَصَوِّرْ عَقْلَك كَيْفَ شِئْتَ. وَقَالَ آخَرُ: الْعَقْلُ بِلَا أَدَبٍ كَالشَّجَرِ الْعَاقِرِ، وَمَعَ الْأَدَبِ كَالشَّجَرِ الْمُثْمِرِ. وَقِيلَ الْأَدَبُ أَحَدُ الْمَنْصِبَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءُ: الْفَضْلُ بِالْعَقْلِ وَالْأَدَبِ، لَا بِالْأَصْلِ وَالْحَسَبِ؛ لِأَنَّ مَنْ سَاءَ أَدَبُهُ ضَاعَ نَسَبُهُ، وَمَنْ قَلَّ عَقْلُهُ ضَلَّ أَصْلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءُ: ذَكِّ قَلْبَك بِالْأَدَبِ كَمَا تُذَكَّى النَّارُ بِالْحَطَبِ، وَاِتَّخِذْ الْأَدَبَ غُنْمًا، وَالْحِرْصَ عَلَيْهِ حَظًّا، يَرْتَجِيكَ رَاغِبٌ، وَيَخَافُ صَوْلَتَك رَاهِبٌ، وَيُؤَمِّلُ نَفْعَكَ، وَيُرْجَى عَدْلُك.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَدَبُ وَسِيلَةٌ إلَى كُلِّ فَضِيلَةٍ، وَذَرِيعَةٌ إلَى كُلِّ شَرِيعَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: الْأَدَبُ يَسْتُرُ قَبِيحَ النَّسَبِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءُ فِيهِ:
فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِثْلَ الْعُقُولِ ... وَلَا اكْتَسَبَ النَّاسُ مِثْلَ الْأَدَبْ
وَمَا كَرَمُ الْمَرْءِ إلَّا التُّقَى ... وَلَا حَسَبُ الْمَرْءِ إلَّا النَّسَبْ
وَفِي الْعِلْمِ زَيْنٌ لِأَهْلِ الْحِجَا ... وَآفَةُ ذِي الْحِلْمِ طَيْشُ الْغَضَبْ
وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
وَإِنْ يَكُ الْعَقْلُ مَوْلُودًا فَلَسْتُ أَرَى ... ذَا الْعَقْلِ مُسْتَغْنِيًا عَنْ حَادِثِ الْأَدَبْ
إنِّي رَأَيْتُهُمَا كَالْمَاءِ مُخْتَلِطًا ... بِالتُّرْبِ تَظْهَرُ مِنْهُ زَهْرَةُ الْعُشَبْ
وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَتْهُ فِي مَوَالِدِهِ ... غَرِيزَةُ الْعَقْلِ حَاكَى الْبُهْمَ فِي الْحَسَبْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute