للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وَالتَّأْدِيبُ يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا لَزِمَ الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ فِي صِغَرِهِ. وَالثَّانِي مَا لَزِمَ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ نُشُوئِهِ وَكِبَرِهِ. فَأَمَّا التَّأْدِيبُ اللَّازِمُ لِلْأَبِ فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ وَلَدَهُ بِمَبَادِئِ الْآدَابِ لِيَأْنَسَ بِهَا، وَيَنْشَأَ عَلَيْهَا، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا عِنْدَ الْكِبْرِ لِاسْتِئْنَاسِهِ بِمَبَادِئِهَا فِي الصِّغَرِ؛ لِأَنَّ نُشُوءَ الصِّغَرِ عَلَى الشَّيْءِ يَجْعَلُهُ مُتَطَبِّعًا بِهِ. وَمَنْ أُغْفِلَ تَأْدِيبُهُ فِي الصِّغَرِ كَانَ تَأْدِيبُهُ فِي الْكِبَرِ عَسِيرًا.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ نِحْلَةً أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ يُفِيدُهُ إيَّاهُ، أَوْ جَهْلٍ قَبِيحٍ يَكْفِهِ عَنْهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ» . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: بَادِرُوا بِتَأْدِيبِ الْأَطْفَالِ قَبْلَ تَرَاكُمِ الْأَشْغَالِ وَتَفَرُّقِ الْبَالِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

إنَّ الْغُصُونَ إذَا قَوَّمْتَهَا اعْتَدَلَتْ ... وَلَا يَلِينُ إذَا قَوَّمْتَهُ الْخَشَبُ

قَدْ يَنْفَعُ الْأَدَبُ الْأَحْدَاثَ فِي صِغَرٍ ... وَلَيْسَ يَنْفَعُ عِنْدَ الشَّيْبَةِ الْأَدَبُ

وَقَالَ آخَرُ:

يَنْشُو الصَّغِيرُ عَلَى مَا كَانَ وَالِدُهُ ... إنَّ الْأُصُولَ عَلَيْهَا تَنْبُتُ الشَّجَرُ

وَأَمَّا الْأَدَبُ اللَّازِمُ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ نُشُوئِهِ وَكِبَرِهِ فَأَدَبَانِ: أَدَبُ مُوَاضَعَةٍ وَاصْطِلَاحٍ، وَأَدَبُ رِيَاضَةٍ وَاسْتِصْلَاحٍ. فَأَمَّا أَدَبُ الْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ فَيُؤْخَذُ تَقْلِيدًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ الْعُقَلَاءِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانُ الْأُدَبَاءِ. وَلَيْسَ لِاصْطِلَاحِهِمْ عَلَى وَضْعِهِ تَعْلِيلٌ مُسْتَنْبَطٌ، وَلَا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ مُوجِبٌ، كَاصْطِلَاحِهِمْ عَلَى مُوَاضَعَاتِ الْخِطَابِ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَيْئَاتِ اللِّبَاسِ، حَتَّى إنَّ الْإِنْسَانَ الْآنَ إذَا تَجَاوَزَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْهَا صَارَ مُجَانِبًا لِلْأَدَبِ، مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ.

لِأَنَّ فِرَاقَ الْمَأْلُوفِ فِي الْعَادَةِ، وَمُجَانَبَةَ مَا صَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بِالْمُوَاضَعَةِ، مُفْضٍ إلَى اسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ بِالْعَقْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِمُخَالَفَتِهِ عِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَمَعْنًى حَادِثٌ. وَقَدْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يُوضَعَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَيَرَوْنَهُ حَسَنًا، وَيَرَوْنَ مَا سِوَاهُ قَبِيحًا، فَصَارَ هَذَا مُشَارِكًا لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ تَوَجُّهُ الذَّمِّ عَلَى تَارِكِهِ وَمُخَالِفًا لَهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يُوضَعَ عَلَى خِلَافِهِ.

وَأَمَّا أَدَبُ الرِّيَاضَةِ وَالِاسْتِصْلَاحِ فَهُوَ مَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى حَالٍ لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ

<<  <   >  >>