مَا وَجَدْت إلَى وَقْتِي هَذَا مَنْ يَعْرِفُ مَوْلِدَ هَذَيْنِ.
فَانْظُرْ إلَى هَؤُلَاءِ كَيْفَ أَبَانُوا بِالْكَلَامِ عَنْ جَهْلِهِمْ، وَأَعْرَبُوا بِالسُّؤَالِ عَنْ نَقْصِهِمْ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَاعٍ إلَيْهِ، وَلَا رَوِيَّةٌ فِيمَا تَكَلَّمُوا بِهِ. وَلَوْ صَدَرَ عَنْ رَوِيَّةٍ وَدَعَا إلَيْهِ دَاعٍ لَسَلِمُوا مِنْ شَيْنِهِ، وَبَرِئُوا مِنْ عَيْبِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِسَانُ الْعَاقِلِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ فَإِذَا أَرَادَ الْكَلَامَ رَجَعَ إلَى قَلْبِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَكَلَّمَ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ. وَقَلْبُ الْجَاهِلِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا عَرَضَ لَهُ» .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عَقْلُ الْمَرْءِ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: احْبِسْ لِسَانَك قَبْلَ أَنْ يُطِيلَ حَبْسَك أَوْ يُتْلِفَ نَفْسَك، فَلَا شَيْءَ أَوْلَى بِطُولِ حَبْسٍ مِنْ لِسَانٍ يَقْصُرُ عَنْ الصَّوَابِ، وَيُسْرِعُ إلَى الْجَوَابِ.
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ:
وَمِمَّا كَانَتْ الْحُكَمَاءُ قَالَتْ ... لِسَانُ الْمَرْءِ مِنْ تَبَعِ الْفُؤَادِ
وَكَانَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ يَحْسِمُ الرُّخْصَةَ فِي الْكَلَامِ وَيَقُولُ: إذَا جَالَسْت الْجُهَّالَ فَأَنْصِتْ لَهُمْ، وَإِذَا جَالَسْت الْعُلَمَاءَ فَأَنْصِتْ لَهُمْ، فَإِنَّ فِي إنْصَاتِك لِلْجُهَّالِ زِيَادَةً فِي الْحِلْمِ، وَفِي إنْصَاتِك لِلْعُلَمَاءِ زِيَادَةً فِي الْعِلْمِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكَلَامِ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَا يَقَعُ مَوْقِعَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَمَا لَا يَنْفَعُ مِنْ الْكَلَامِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ هَذَيَانٌ وَهَجْرٌ، فَإِنْ قَدَّمَ مَا يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ كَانَ عَجَلَةً وَخَرَقًا وَإِنْ أَخَّرَ مَا يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ كَانَ تَوَانِيًا وَعَجْزًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ قَوْلًا، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ عَمَلًا.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
تَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى مَوَاضِعِهِ ... وَكَلَامُهَا مِنْ بَعْدِهَا نَزْرُ
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ إنْ لَمْ يَنْحَصِرْ بِالْحَاجَةِ، وَلَمْ يُقَدَّرْ بِالْكِفَايَةِ، لَمْ يَكُنْ لِحَدِّهِ غَايَةٌ، وَلَا لِقَدْرِهِ نِهَايَةٌ. وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْكَلَامِ مَحْصُورًا كَانَ حَصْرًا إنْ قَصُرَ، وَهَذْرًا إنْ كَثُرَ. وَرُوِيَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا تَكَلَّمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَوَّلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute