فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَمْ دُونَ لِسَانِك مِنْ حِجَابٍ؟ قَالَ: شَفَتَايَ وَأَسْنَانِي. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَكْرَهُ الِانْبِعَاقَ فِي الْكَلَامِ» . فَنَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَ امْرِئٍ أَوْجَزَ فِي كَلَامِهِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى حَاجَتِهِ.
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى رَجُلًا يُكْثِرُ الْكَلَامَ وَيُقِلُّ السُّكُوتَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَلْقَ لَك أُذُنَيْنِ وَلِسَانًا وَاحِدًا لِيَكُونَ مَا تَسْمَعُهُ ضِعْفَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَتْ آثَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أُنْذِرُكُمْ فُضُولَ الْمَنْطِقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: كَلَامُ الْمَرْءِ بَيَانُ فَضْلِهِ، وَتَرْجُمَانُ عَقْلِهِ، فَاقْصُرْهُ عَلَى الْجَمِيلِ وَاقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَإِيَّاكَ مَا يُسْخِطُ سُلْطَانَك، وَيُوحِشُ إخْوَانَك، فَمَنْ أَسْخَطَ سُلْطَانَهُ تَعَرَّضَ لِلْمَنِيَّةِ وَمَنْ أَوْحَشَ إخْوَانَهُ تَبَرَّأَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَزِنْ الْكَلَامَ إذَا نَطَقْتَ فَإِنَّمَا ... يُبْدِي عُيُوبَ ذَوِي الْعُيُوبِ الْمَنْطِقُ
وَلِمُخَالَفَةِ قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ الْكَلَامِ حَالَتَانِ: تَقْصِيرٌ يَكُونُ حَصْرًا، وَتَكْثِيرٌ يَكُونُ هَذْرًا، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ. وَشَيْنُ الْهَذَرِ أَشْنَعُ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْغَالِبِ أَخْوَفَ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَقْتَلُ الرَّجُلِ بَيْنَ فَكَّيْهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْحَصْرُ خَيْرٌ مِنْ الْهَذْرِ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ يُضَعِّفُ الْحُجَّةَ، وَالْهَذْرَ يُتْلِفُ الْمَحَجَّةَ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
رَأَيْت اللِّسَانَ عَلَى أَهْلِهِ ... إذَا سَاسَهُ الْجَهْلُ لَيْثًا مُغِيرَا
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: يَا رُبَّ أَلْسِنَةٍ كَالسُّيُوفِ تَقْطَعُ أَعْنَاقَ أَصْحَابِهَا.
وَمَا يَنْقُصُ مِنْ هَيْئَاتِ الرِّجَالِ يَزِيدُ فِي بِهَائِهَا وَأَلْبَابِهَا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ إذَا كَثُرَ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَزَادَ عَلَى حَدِّ الْكِفَايَةِ، وَكَانَ صَوَابًا لَا يَشُوبُهُ خَطَلٌ، وَسَلِيمًا لَا يَتَعَوَّدُهُ زَلَلٌ، فَهُوَ الْبَيَانُ وَالسَّحَرُ الْحَلَالُ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ ذُمَّ الْكَلَامُ فِي مَجْلِسِهِ: كَلًّا إنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَسْكُتَ فَيُحْسِنَ، وَلَيْسَ مَنْ سَكَتَ فَأَحْسَنَ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فَيُحْسِنَ. وَوَصَفَ بَعْضُهُمْ الْكَاتِبَ فَقَالَ: الْكَاتِبُ مَنْ إذَا أَخَذَ شِبْرًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute