شَوَاهِدِ نُبْلِهِ. وَلِذَلِكَ إحْدَى عِلَّتَيْنِ: إمَّا؛ لِأَنَّ الْكَمَالَ مُعْوِزٌ وَالنَّقْصُ لَازِمٌ، فَإِذَا تَوَاتَرَ الْفَضْلُ عَلَيْهِ صَارَ النَّقْصُ فِيمَا سِوَاهُ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ زَادَ فِي عَقْلِهِ نَقَصَ مِنْ رِزْقِهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا انْتَقَصَتْ جَارِحَةٌ مِنْ إنْسَانٍ إلَّا كَانَتْ ذَكَاءً فِي عَقْلِهِ» . وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
مَا جَاوَزَ الْمَرْءُ مِنْ أَطْرَافِهِ طَرَفًا ... إلَّا تَخَوَّنَهُ النُّقْصَانُ مِنْ طَرَفِ
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ، لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ هِلَالٍ الْكَاتِبِ:
إذَا جَمَعَتْ بَيْنَ امْرَأَيْنِ صِنَاعَةٌ ... فَأَحْبَبْتَ أَنْ تَدْرِيَ الَّذِي هُوَ أَحْذَقُ
فَلَا تَتَفَقَّدْ مِنْهُمَا غَيْرَ مَا جَرَتْ ... بِهِ لَهُمَا الْأَرْزَاقُ حِينَ تُفَرَّقُ
فَحَيْثُ يَكُونُ النَّقْصُ فَالرِّزْقُ وَاسِعٌ ... وَحَيْثُ يَكُونُ الْفَضْلُ فَالرِّزْقُ ضَيِّقُ
وَإِمَّا؛ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ مَحْسُودٌ، وَبِالْأَذَى مَقْصُودٌ، فَلَا يَسْلَمُ فِي بِرِّهِ مِنْ مُعَادٍ وَاشْتِطَاطِ مُنَاوٍ. وَقَالَ الصَّنَوْبَرِيُّ:
مِحَنُ الْفَتَى يُخْبِرْنَ عَنْ فَضْلِ الْفَتَى ... كَالنَّارِ مُخْبِرَةٌ بِفَضْلِ الْعَنْبَرِ
وَقَلَّمَا تَكُونُ مِحْنَةُ فَاضِلٍ إلَّا مِنْ جِهَةِ نَاقِصٍ، وَبَلْوَى عَالِمٍ إلَّا عَلَى يَدِ جَاهِلٍ. وَذَلِكَ لِاسْتِحْكَامِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا بِالْمُبَايَنَةِ، وَحُدُوثِ الِانْتِقَامِ؛ لِأَجَلِ التَّقَدُّمِ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا غَرْوَ أَنْ يُمْنَى عَلِيمٌ بِجَاهِلِ ... فَمِنْ ذَنَبِ التِّنِّينِ تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ
وَمِنْهَا: مَا يَعْتَاضُهُ مِنْ الِارْتِيَاضِ بِنَوَائِبِ عَصْرِهِ، وَيَسْتَفِيدُهُ مِنْ الْحُنْكَةِ بِبَلَاءِ دَهْرِهِ، فَيَصْلُبُ عُودُهُ وَيَسْتَقِيمُ عَمُودُهُ، وَيَكْمُلُ بِأَدْنَى شِدَّتِهِ وَرَخَائِهِ، وَيَتَّعِظُ بِحَالَتَيْ عَفْوِهِ وَبَلَائِهِ. حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَعَلَيْهِ خُلَعُ الرِّضَا بَعْدَ النَّكْبَةِ فَلَمَّا مَثُلْت بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لِي: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ اسْمَعْ مَا أَقُولُ:
نَوَائِبُ الدَّهْرِ أَدَّبَتْنِي ... وَإِنَّمَا يُوعَظُ الْأَدِيبُ
قَدْ ذُقْتُ حُلْوًا وَذُقْتُ مُرًّا ... كَذَاك عَيْشُ الْفَتَى ضُرُوبُ
لَمْ يَمْضِ بُؤْسٌ وَلَا نَعِيمٌ ... إلَّا وَلِيَ فِيهِمَا نَصِيبُ