للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

كَذَاكَ مَنْ صَاحَبَ اللَّيَالِي ... تَغْدُوهُ مِنْ دَرِّهَا الْخُطُوبُ

فَقُلْت: لِمَنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ؟ قَالَ: لِي.

وَمِنْهَا: أَنْ يَخْتَبِرَ أُمُورَ زَمَانِهِ، وَيَتَنَبَّهُ عَلَى صَلَاحِ شَأْنِهِ، فَلَا يَغْتَرُّ بِرَخَاءٍ، وَلَا يَطْمَعُ فِي اسْتِوَاءٍ، وَلَا يُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى الدُّنْيَا عَلَى حَالَةٍ، أَوْ تَخْلُو مِنْ تَقَلُّبٍ وَاسْتِحَالَةٍ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَخَبَرَ أَحْوَالَهَا هَانَ عَلَيْهِ بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا.

وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:

إنِّي رَأَيْتُ عَوَاقِبَ الدُّنْيَا ... فَتَرَكْتُ مَا أَهْوَى لِمَا أَخْشَى

فَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا وَعَالَمِهَا ... فَإِذَا جَمِيعُ أُمُورِهَا تَفْنَى

وَبَلَوْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا فَإِذَا ... كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ يَسْعَى

أَسْنَى مَنَازِلِهَا وَأَرْفَعُهَا ... فِي الْعِزِّ أَقْرَبُهَا مِنْ الْمَهْوَى

تَعْفُو مَسَاوِيهَا مَحَاسِنَهَا ... لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّعْيِ وَالْبُشْرَى

وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلَى الْقُبُورِ فَمَا ... مَيَّزْتُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى

أَتُرَاكَ تَدْرِي كَمْ رَأَيْتَ مِنْ الْأَحْيَاءِ ... ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ مَوْتَى

فَإِذَا ظَفِرَ الْمُصَابُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ تَخَفَّفَتْ عَنْهُ أَحْزَانُهُ، وَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ أَشْجَانُهُ، فَصَارَ وَشْيَك السَّلْوَةِ قَلِيلَ الْجَزَعِ حَسَنَ الْعَزَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ حَاذَرَ لَمْ يَهْلَعْ، وَمَنْ رَاقَبَ لَمْ يَجْزَعْ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَقِّعًا لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّعًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

مَا يَكُونُ الْأَمْرُ سَهْلًا كُلُّهُ ... إنَّمَا الدُّنْيَا سُرُورٌ وَحُزُونُ

هَوِّنْ الْأَمْرَ تَعِشْ فِي رَاحَةٍ ... قَلَّ مَا هَوَّنْتَ إلَّا سَيَهُونُ

تَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي دَارِ الْفَنَا ... ضَلَّ مَنْ يَطْلُبُ شَيْئًا لَا يَكُونُ

فَإِنْ أَغْفَلَ نَفْسَهُ عَنْ دَوَاعِي السَّلْوَةِ وَمَنَعَهَا مِنْ أَسْبَابِ الصَّبْرِ، تَضَاعَفَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْأَسَى وَهَمِّ الْجَزَعِ مَا لَا يُطِيقُ عَلَيْهِ صَبْرًا وَلَا يَجِدُ عَنْهُ سَلْوًا. وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:

إنَّ الْبَلَاءَ يُطَاقُ غَيْرُ مُضَاعَفٍ ... فَإِذَا تَضَاعَفَ صَارَ غَيْرَ مُطَاقِ

<<  <   >  >>