للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إذَا قُلْت هَاتِي نَوِّلِينِي تَبَرَّمَتْ ... وَقَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ فِعْلِ مَا حَرُمْ

فَمَا نَوَّلَتْ حَتَّى تَضَرَّعْتُ عِنْدَهَا ... وَأَنْبَأْتُهَا مَا رَخَّصَ اللَّهُ فِي اللَّمَمْ

فَأَمَّا الْخُرُوجُ إلَى حَدِّ الْخَلَاعَةِ فَهُجْنَةٌ وَمَذَمَّةٌ، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَكَانَ مُحَدِّثًا، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ:

وَإِذَا الْمَعِدَةُ جَاشَتْ ... فَارْمِهَا بِالْمَنْجَنِيقِ

بِثَلَاثٍ مِنْ نَبِيذٍ ... لَيْسَ بِالْحُلْوِ الرَّقِيقِ

أَمَا تَرَى كَيْفَ طَرَقَ بِخَلَاعَتِهِ التُّهْمَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْمَزْحِ فِيمَا لَعَلَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ، وَبَعِيدٌ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُسْتَرْسِلًا فِي مِزَاحِهِ. رَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ أَنَّ مَرْوَانَ رُبَّمَا كَانَ يَسْتَخْلِفُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فَيَرْكَبُ حِمَارًا قَدْ شَدَّ عَلَيْهِ بَرْذَعَةً فَيَسِيرُ فَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: الطَّرِيقُ قَدْ جَاءَ الْأَمِيرُ. وَرُبَّمَا أَتَى الصِّبْيَانَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لُعْبَةَ الْأَعْرَابِ فَلَا يَشْعُرُونَ حَتَّى يُلْقِيَ نَفْسَهُ بَيْنَهُمْ وَيَضْرِبَ بِرِجْلِهِ فَيَفْزَعُ الصِّبْيَانُ فَيَنْفِرُونَ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْقَدْرِ الْمُسْتَسْمَحِ بِهِ وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْفِعْلِ مِنْهُ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ.

وَقَدْ «كَانَ صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ مَزَّاحًا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِك رَمَدٌ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَمْضُغُ عَلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى» . وَإِنَّمَا اسْتَجَازَ صُهَيْبٌ أَنْ يُعَرِّضَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَزْحِ فِي جَوَابِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِخْبَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْمَزْحَ، فَأَجَابَهُ عَنْ اسْتِخْبَارِهِ بِمَا يُوَافِقُهُ مُسَاعِدَةً لِغَرَضِهِ، وَتَقَرُّبًا مِنْ قَلْبِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ جَوَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَزْحًا؛ لِأَنَّ الْمَزْحَ هَزْلٌ، وَمَنْ جَعَلَ جَوَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُبَيِّنِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحْكَامَهُ، الْمُؤَدِّي إلَى خَلْقِهِ أَوَامِرَهُ، هَزْلًا وَمَزْحًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَصُهَيْبٌ كَانَ أَطَوْعَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.

فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا سَابِقُ الْعَرَبِ، وَصُهَيْبٌ سَابِقُ الرُّومَ، وَسَلْمَانُ سَابِقُ الْفُرْسَ، وَبِلَالٌ سَابِقُ الْحَبَشِ» . وَمِنْ مُسْتَحْسَنِ الْمَزْحِ وَمُسْتَسْمَحِ الدُّعَابَةِ مَا حَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ

<<  <   >  >>