الْحُكَمَاءِ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْمُرُوءَةِ فَقَالَ: الْعَقْلُ يَأْمُرُك بِالْأَنْفَعِ، وَالْمُرُوءَةُ تَأْمُرُك بِالْأَجْمَلِ. وَلَنْ تَجِدَ الْأَخْلَاقَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ حَدِّ الْمُرُوءَةِ مُنْطَبِعَةً، وَلَا عَنْ الْمُرَاعَاةِ مُسْتَغْنِيَةً، وَإِنَّمَا الْمُرَاعَاةُ هِيَ الْمُرُوءَةُ لَا مَا انْطَبَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ فَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ غُرُورَ الْهَوَى وَنَازِعَ الشَّهْوَةِ يَصْرِفَانِ النَّفْسَ أَنْ تَرْكَبَ الْأَفْضَلَ مِنْ خَلَائِقِهَا، وَالْأَجْمَلَ مِنْ طَرَائِقِهَا، وَإِنْ سَلِمَتْ مِنْهَا، وَبَعِيدٌ أَنْ تَسْلَمَ إلَّا لِمَنْ اسْتَكْمَلَ شَرَفَ الْأَخْلَاقِ طَبْعًا، وَاسْتَغْنَى عَنْ تَهْذِيبِهَا تَكَلُّفًا وَتَطَبُّعًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْ لَك بِالْمَحْضِ وَلَيْسَ مَحْضٌ ... يَخْبُثُ بَعْضٌ وَيَطِيبُ بَعْضُ
ثُمَّ لَوْ اسْتَكْمَلَ الْفَضْلَ طَبْعًا، وَفِي الْمُعْوِزِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَكْمِلًا، لَكَانَ فِي الْمُسْتَحْسَنِ مِنْ عَادَاتِ دَهْرِهِ، وَالْمَوْضُوعِ مِنْ اصْطِلَاحِ عَصْرِهِ، مِنْ حُقُوقِ الْمُرُوءَةِ وَشُرُوطِهَا مَا لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْمُعَانَاةِ وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّفَقُّدِ وَالْمُرَاعَاةِ. فَثَبُتَ أَنَّ مُرَاعَاةَ النَّفْسِ عَلَى أَفْضَلِ أَحْوَالِهَا هِيَ الْمُرُوءَةُ.
وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَنْقَادُ لَهَا مَعَ ثِقَلِ كُلَفِهَا إلَّا مَنْ تَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ رَغْبَةً فِي الْحَمْدِ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ الْمَلَاذُ حَذَرًا مِنْ الذَّمِّ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: سَيِّدُ الْقَوْمِ أَشْقَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ:
وَالْحَمْدُ شَهْدٌ لَا يُرَى مُشْتَارَهُ ... يَجْنِيهِ إلَّا مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ
غُلٌّ لِحَامِلِهِ وَيَحْسَبُهُ الَّذِي ... لَمْ يُوهِ عَاتِقَهُ خَفِيفَ الْمَحْمَلِ
وَقَدْ لَحَظَ الْمُتَنَبِّي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
لَوْلَا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمْ ... الْجُودُ يُفْقِرُ وَالْإِقْدَامُ قَتَّالُ
وَلَهُ أَيْضًا:
وَإِذَا كَانَتْ النُّفُوسُ كِبَارًا ... تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ
وَالدَّاعِي إلَى اسْتِسْهَالِ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: عُلُوُّ الْهِمَّةِ. وَالثَّانِي شَرَفُ النَّفْسِ. أَمَّا عُلُوُّ الْهِمَّةِ فَلِأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى التَّقَدُّمِ وَدَاعٍ إلَى التَّخْصِيصِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute