بَضَائِعِ النَّوْكَى. فَإِنْ صَادَفَ بِهِمَّتِهِ حَظًّا نَالَ بِهِ أَمَلًا كَانَ فِيمَا نَالَهُ كَالْمُغْتَصِبِ، وَفِيمَا وَصَلَ إلَيْهِ كَالْمُتَغَلِّبِ، إذْ لَيْسَ فِي الْحُظُوظِ تَقْدِيرٌ لِحَقٍّ، وَلَا تَمْيِيزٌ لِمُسْتَحِقٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ كَالسَّحَابِ الَّذِي يَمْسِكُ عَنْ مَنَابِتِ الْأَشْجَارِ إلَى مَغَايِصِ الْبِحَارِ وَيَتْرُكُ حَيْثُ صَادَفَ مِنْ خَبِيثٍ وَطَيِّبٍ، فَإِنْ صَادَفَ أَرْضًا طَيِّبَةً نَفَعَ وَإِنْ صَادَفَ أَرْضًا خَبِيثَةً ضَرَّ.
كَذَلِكَ الْحَظُّ إنْ صَادَفَ نَفْسًا شَرِيفَةً نَفَعَ، وَكَانَ نِعْمَةً عَامَّةً، وَإِنْ صَادَفَ نَفْسًا دَنِيَّةً ضَرَّ وَكَانَ نِقْمَةً طَامَّةً. وَحُكِيَ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعَا عَلَى قَوْمٍ بِالْعَذَابِ فَأُوحِيَ إلَيْهِ قَدْ مَلَكْت سُفْلَهَا عَلَى أَعْلَاهَا فَقَالَ: يَا رَبِّ كُنْتُ أُحِبُّ لَهُمْ عَذَابًا عَاجِلًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ أَوَلَيْسَ هَذَا كُلَّ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ الْأَلِيمِ؟ فَأَمَّا شَرَفُ النَّفْسِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ فَإِنَّ الْفَضْلَ بِهِ عَاطِلٌ، وَالْقَدْرَ بِهِ خَامِلٌ، وَهُوَ كَالْقُوَّةِ فِي الْجِلْدِ الْكَسِلِ، وَالْجَبَانِ الْفَشِلِ، تَضِيعُ قُوَّتُهُ بِكَسَلِهِ، وَجَلَدُهُ بِفَشَلِهِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ دَامَ كَسَلُهُ خَابَ أَمَلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: نَكَحَ الْعَجْزُ التَّوَانِي فَخَرَجَ مِنْهُمَا النَّدَامَةُ، وَنَكَحَ الشُّؤْمُ الْكَسَلَ فَخَرَجَ مِنْهُمَا الْحِرْمَانُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ لِنَفْسِكَ حَقَّهَا ... هَوَانًا بِهَا كَانَتْ عَلَى النَّاسِ أَهْوَنَا
فَنَفْسَكَ أَكْرِمْهَا وَإِنْ ضَاقَ مَسْكَنٌ ... عَلَيْك لَهَا فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَسْكَنَا
وَإِيَّاكَ وَالسُّكْنَى بِمَنْزِلِ ذِلَّةٍ ... يُعَدُّ مُسِيئًا فِيهِ مَنْ كَانَ مُحْسِنَا
وَشَرَفُ النَّفْسِ مَعَ صِغَرِ الْهِمَّةِ أَوْلَى مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ مَعَ دَنَاءَةِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَتْ هِمَّتُهُ مَعَ دَنَاءَةِ نَفْسِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَى طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَمُتَخَطِّيًا إلَى الْتِمَاسِ مَا لَا يَسْتَوْجِبُهُ. وَمَنْ شَرُفَتْ نَفْسُهُ مَعَ صِغَرِ هِمَّتِهِ فَهُوَ تَارِكٌ لِمَا يَسْتَحِقُّ وَمُقَصِّرٌ عَمَّا يَجِبُ لَهُ. وَفَضْلُ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الذَّمِّ نَصِيبٌ.
وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَا أَصْعَبُ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ؟ قَالَ: أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَيَكْتُمَ الْأَسْرَارَ. فَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ وَاقْتَرَنَ بِشَرَفِ النَّفْسِ عُلُوُّ الْهِمَّةِ كَانَ الْفَضْلُ بِهِمَا ظَاهِرًا، وَالْأَدَبُ بِهِمَا وَافِرًا، وَمَشَاقُّ الْحَمْدِ بَيْنَهُمَا مُسَهَّلَةً، وَشُرُوطُ الْمُرُوءَةِ بَيْنَهُمَا مُتَبَيَّنَةً. وَقَدْ قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيُّ:
إنَّ الْمُرُوءَةَ لَيْسَ يُدْرِكُهَا امْرُؤٌ ... وَرِثَ الْمَكَارِمَ عَنْ أَبٍ فَأَضَاعَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute