للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وَاسْتِعْمَالِهِ لِأَحْسَنِ الْآدَابِ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ مِنْ إفْضَالِهِ بِرَغَائِبِ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ هُوَ أَزْيَدُ فِي رُتْبَتِهِ وَأَبْلَغُ فِي تَقَدُّمِهِ.

وَإِنْ شَاحَّ فِيهَا وَنَازَعَ كَانَ مَعَ ارْتِكَابِهِ لِأَخْشَنِ الْأَخْلَاقِ وَاسْتِعْمَالِهِ لِأَهْجَنِ الْآدَابِ أَنْكَى فِي النُّفُوسِ مِنْ حَدِّ السَّيْفِ وَطَعْنِ السِّنَانِ، ثُمَّ هُوَ أَخْفَضُ لِلْمَرْتَبَةِ وَأَمْنَعُ مِنْ التَّقَدُّمِ. حُكِيَ أَنَّ فَتًى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنَّ الْآدَابَ مِيرَاثُ الْأَشْرَافِ وَلَسْتُ أَرَى عِنْدَك مَنْ سَلَفِك إرْثًا.

وَأَمَّا الْمُسَامَحَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَتَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: مُسَامَحَةُ إسْقَاطٍ لِعُدْمٍ، وَمُسَامَحَةُ تَخْفِيفٍ لِعَجْزٍ، وَمُسَامَحَةُ إنْكَارٍ لِعُسْرَةٍ. وَهِيَ مَعَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا تَفَضُّلٌ مَأْثُورٌ وَتَآلُفٌ مَشْكُورٌ. وَإِذَا كَانَ الْكَرِيمُ قَدْ يَجُودُ بِمَا تَحْوِيهِ يَدُهُ، وَيَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَجُودَ بِمَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ فَطَابَ نَفْسًا بِفِرَاقِهِ.

وَقَدْ تَصِلُ الْمُسَامَحَةُ فِي الْحُقُوقِ إلَى مَنْ لَا يَقْبَلُ الْبِرَّ وَيَأْبَى الصِّلَةَ فَيَكُونُ أَحْسَنَ مَوْقِعًا وَأَزْكَى مَحَلًّا. وَرُبَّمَا كَانَتْ الْمُسَامَحَةُ فِيهَا آمَنُ مِنْ رَدِّ السَّائِلِ وَمَنْعِ الْمُجْتَدِي؛ لِأَنَّ السَّائِلَ كَمَا اجْتَرَأَ عَلَى سُؤَالِك فَسَيَجْتَرِئُ عَلَى سُؤَالِ غَيْرِك إنْ رَدَدْته. وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ صَارَ أَسِيرَ حَقِّك، وَرَهِينَ دَيْنِك يَجِدُ بُدًّا مِنْ مُسَامَحَتِك وَمُيَاسَرَتِك، ثُمَّ لَك مَعَ ذَلِكَ حُسْنُ الثَّنَاءِ وَجَزِيلُ الْأَجْرِ. وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:

الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَوْتِ أُحْدُوثَةٌ ... يَفْنَى وَتَبْقَى مِنْهُ آثَارُهْ

فَأَحْسَنُ الْحَالَاتِ حَالُ امْرِئٍ ... تَطِيبُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَخْبَارُهْ

فَهَذِهِ حَالُ الْمُيَاسَرَةِ.

وَأَمَّا الْإِفْضَالُ فَنَوْعَانِ: إفْضَالُ اصْطِنَاعٍ، وَإِفْضَالُ اسْتِكْفَافٍ وَدِفَاعٍ. فَأَمَّا إفْضَالُ الِاصْطِنَاعِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَسَدَاهُ جُودًا فِي شَكُورٍ. وَالثَّانِي: مَا تَأَلَّفَ بِهِ نَبْوَةَ نُفُورٍ. وَكِلَاهُمَا مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ ظُهُورِ الِاصْطِنَاعِ، وَتَكَاثُرِ الْأَشْيَاعِ وَالْأَتْبَاعِ. وَمَنْ قَلَّتْ صَنَائِعُهُ فِي الشَّاكِرِينَ، وَأَعْرَضَ عَنْ تَأَلُّفِ النَّافِرِينَ، كَانَ فَرْدًا مَهْجُورًا، وَتَابِعًا مَحْقُورًا. وَلَا مُرُوءَةَ لِمَتْرُوكٍ مُطَّرَحٍ، وَلَا قَدْرَ لِمَحْقُورٍ مُهْتَضَمٍ.

وَقَالَ

<<  <   >  >>