للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا طَاوَعَنِي النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ أَرَدْتُهُ مِنْ الْحَقِّ حَتَّى بَسَطْتُ لَهُمْ طَرَفًا مِنْ الدُّنْيَا.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَقَلُّ مَا يَجِبُ لِلْمُنْعِمِ بِحَقِّ نِعْمَتِهِ أَنْ لَا يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مَعْصِيَتِهِ. وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ:

مَنْ جَمَعَ الْمَالَ وَلَمْ يَجُدْ بِهِ ... وَتَرَكَ الْمَالَ لِعَامِ جَدْبِهِ

هَانَ عَلَى النَّاسِ هَوَانَ كَلْبِهِ

يَبْقَى الثَّنَاءُ وَتَذْهَبُ الْأَمْوَالُ ... وَلِكُلِّ دَهْرٍ دَوْلَةٌ وَرِجَالُ

مَا نَالَ مَحْمَدَةَ الرِّجَالِ وَشُكْرَهُمْ ... إلَّا الْجَوَادُ بِمَالِهِ الْمِفْضَالُ

لَا تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلَاوَةَ قَوْلِهِ ... حَتَّى يُصَدِّقَ مَا يَقُولُ فِعَالُ

فَإِنْ ضَاقَتْ بِهِ الْحَالُ عَنْ الِاصْطِنَاعِ بِمَالِهِ فَقَدْ عَدِمَ مِنْ آلَةِ الْمَكَارِمِ عِمَادَهَا، وَفَقَدَ مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ سِنَادَهَا، فَلْيُوَاسِ بِنَفْسِهِ مُوَاسَاةَ الْمُسَاعِفِ وَلْيَسْعَدْ بِهَا إسْعَادَ الْمُتَأَلِّفِ. قَالَ الْمُتَنَبِّي:

فَلْيُسْعِدْ النُّطْقُ إنْ لَمْ تُسْعَدْ الْحَالُ

وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهَا، وَإِنْ أَجْهَدَهَا إلَّا تَبَعًا لِلْمُفْضِلِينَ قَلِيلَةً بَيْنَ الْمُكْثِرِينَ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُسَاوَوْنَ بَيْنَ الْمُعْطِي وَالْمَانِعِ، وَلَا يُقْنِعُهُمْ الْقَوْلُ دُونَ الْفِعْلِ، وَلَا يُغْنِيهِمْ الْكَلَامُ عَنْ الْمَالِ، وَيَرَوْنَهُ كَالصَّدَى إنْ رَدَّ صَوْتًا لَمْ يَجِدْ نَفْعًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

يَجُودُ بِالْوَعْدِ وَلَكِنَّهُ ... يَدْهُنُ مِنْ قَارُورَةٍ فَارِغَهْ

فَكُلُّ مَا خَرَجَ عِنْدَهُمْ عَنْ الْمَالِ كَانَ فَارِغًا، وَكُلُّ مَا عَدَا الْإِفْضَالَ بِهِ كَانَ هَيِّنًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ الْقَوْلِ فِي شُرُوطِ الْإِفْضَالِ مَا أَقْنَعَ.

وَأَمَّا إفْضَالُ الِاسْتِكْفَافِ؛ فَلِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ لَا يَعْدَمُ حَاسِدَ نِعْمَةٍ وَمُعَانِدَ فَضِيلَةٍ يَعْتَرِيهِ الْجَهْلُ بِإِظْهَارِ عِنَادِهِ، وَيَبْعَثُهُ اللُّؤْمُ عَلَى الْبَذَاءِ بِسَفَهِهِ فَإِنْ غَفَلَ عَنْ اسْتِكْفَافِ السُّفَهَاءِ، وَأَعْرَضَ عَنْ اسْتِدْفَاعِ أَهْلِ الْبَذَاءِ، صَارَ عِرْضُهُ هَدَفًا لِلْمَثَالِبِ، وَحَالُهُ عُرْضَةً لِلنَّوَائِبِ، وَإِذَا اسْتَكْفَى السَّفِيهَ وَاسْتَدْفَعَ الْبَذِيءَ صَانَ عَرْضَهُ وَحَمَى نِعْمَتَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ

<<  <   >  >>