وَيَصِيرُوا عَجَزَةً مَضْعُوفِينَ.
وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ رَجُلًا يُنَاظِرُ فِي مَجْلِسِ حَفْلٍ وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْخَصْمُ بِدَلَالَةٍ صَحِيحَةٍ فَكَانَ جَوَابُهُ عَنْهَا أَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ دَلَالَةٌ فَاسِدَةٌ، وَجْهُ فَسَادِهَا أَنَّ شَيْخِي لَمْ يَذْكُرْهَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ لَا خَيْرَ فِيهِ. فَأَمْسَكَ عَنْهُ الْمُسْتَدِلُّ تَعَجُّبًا؛ وَلِأَنَّ شَيْخَهُ كَانَ مُحْتَشِمًا. وَقَدْ حَضَرَتْ طَائِفَةٌ يَرَوْنَ فِيهِ مِثْلَ مَا رَأَى هَذَا الْجَاهِلُ، ثُمَّ أَقْبَلَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَيَّ وَقَالَ لِي: وَاَللَّهِ لَقَدْ أَفْحَمَنِي بِجَهْلِهِ وَصَارَ سَائِرُ النَّاسِ الْمُبَرَّئِينَ مِنْ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مَا بَيْنَ مُسْتَهْزِئٍ وَمُتَعَجِّبٍ، وَمُسْتَعِيذٍ بِاَللَّهِ مِنْ جَهْلٍ مُغْرِبٍ.
فَهَلْ رَأَيْت كَذَلِكَ عَالِمًا أَوْغَلَ فِي الْجَهْلِ، وَأَدَلَّ عَلَى قِلَّةِ الْعَقْلِ. وَإِذَا كَانَ الْمُتَعَلِّمُ مُعْتَدِلَ الرَّأْيِ فِيمَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ، مُتَوَسِّطَ الِاعْتِقَادِ مِمَّنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، حَتَّى لَا يَحْمِلَهُ الْإِعْنَاتُ عَلَى اعْتِرَاضِ الْمُبَكِّتِينَ، وَلَا يَبْعَثُهُ الْغُلُوُّ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُقَلَّدِينَ، بَرِئَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ الْمَذَمَّتَيْنِ، وَسَلِمَ الْعَالِمُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ.
وَلَيْسَ كَثْرَةُ السُّؤَالِ فِيمَا الْتَبَسَ إعْنَاتًا، وَلَا قَبُولُ مَا صَحَّ فِي النَّفْسِ تَقْلِيدًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعِلْمُ خَزَائِنُ وَمِفْتَاحُهُ السُّؤَالُ فَاسْأَلُوا - رَحِمَكُمْ اللَّهُ - فَإِنَّمَا يُؤْجَرُ فِي الْعِلْمِ ثَلَاثَةٌ: الْقَائِلُ وَالْمُسْتَمِعُ وَالْآخِذُ» .
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «هَلَّا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» . فَأَمَرَ بِالسُّؤَالِ وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَنَهَى آخَرِينَ عَنْ السُّؤَالِ وَزَجَرَ عَنْهُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْهَاكُمْ عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ» .
وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَوَّلِ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالسُّؤَالِ مَنْ قَصَدَ بِهِ عِلْمَ مَا جَهِلَ، وَنَهَى عَنْهُ مَنْ قَصَدَ بِهِ إعْنَاتَ مَا سَمِعَ، وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ فِي مَوْضِعِهِ أَزَالَ الشُّكُوكَ وَنَفَى الشُّبْهَةَ.
وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عُقُولٍ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ» . وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْغَنَوِيِّ:
فَسَلْ الْفَقِيهَ تَكُنْ فَقِيهًا مِثْلَهُ ... لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ بِغَيْرِ تَدَبُّرِ
وَإِذَا تَعَسَّرَتْ الْأُمُورُ فَأَرْجِهَا ... وَعَلَيْك بِالْأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَعْسِرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute