للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

اسْتِعْمَالُهُ، وَمِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ اسْتِقْلَالُهُ. فَمَنْ اسْتَعْمَلَ عِلْمَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ رَشَادٍ، وَمَنْ اسْتَقَلَّ عَمَلَهُ لَمْ يَقْصُرْ عَنْ مُرَادٍ. وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ:

وَلَمْ يَحْمَدُوا مِنْ عَالِمٍ غَيْرِ عَامِلٍ ... خِلَافًا وَلَا مِنْ عَامِلٍ غَيْرِ عَالِمِ

رَأَوْا طُرُقَاتِ الْمَجْدِ عِوَجًا قَطِيعَةً ... وَأَفْظَعُ عَجْزٍ عِنْدَهُمْ عَجْزُ حَازِمِ

لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُهُ حُجَّةً عَلَى مَنْ أَخَذَ عَنْهُ وَاقْتَبَسَهُ مِنْهُ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ أَحَجَّ وَلَهُ أَلْزَمَ؛ لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْقَوْلِ، كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْعَمَلِ.

وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:

اسْمَعْ إلَى الْأَحْكَامِ ... تَحْمِلُهَا الرُّوَاةُ إلَيْك عَنْكَا

وَاعْلَمْ هُدِيتَ بِأَنَّهَا ... حُجَجٌ تَكُونُ عَلَيْك مِنْكَا

ثُمَّ لِيَتَجَنَّب أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَفْعَلُ، وَأَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ بِهِ، وَأَنْ يُسِرَّ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ، وَلَا يَجْعَلُ قَوْلَ الشَّاعِرِ هَذَا:

اعْمَلْ بِقَوْلِي وَإِنْ قَصَّرْت فِي عَمَلِي ... يَنْفَعْك قَوْلِي وَلَا يَضْرُرْك تَقْصِيرِي

عُذْرًا لَهُ فِي تَقْصِيرٍ يُضْمِرُهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ غَيْرَهُ. فَإِنَّ إعْذَارَ النَّفْسِ يُغْرِيهَا وَيُحَسِّنُ لَهَا مَسَاوِئَهَا.

فَإِنَّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلُ فَقَدْ مَكَرَ، وَمَنْ أَمَرَ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ فَقَدْ خَدَعَ، وَمَنْ أَسَرَّ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ فَقَدْ نَافَقَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَصَاحِبَاهُمَا فِي النَّارِ» . عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِمَا لَا يَأْتَمِرُ مُطْرَحٌ، وَإِنْكَارَهُ مَا لَا يُنْكِرُهُ مِنْ نَفْسِهِ مُسْتَقْبَحٌ.

بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِغْرَاءِ الْمَأْمُورِ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ عِنَادًا، وَارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ كِيَادًا.

وَحُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةِ طَلَاقٍ فَأَفْتَاهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: اُنْظُرْ حَسَنًا. قَالَ: نَظَرْتُ وَقَدْ بَانَتْ فَوَلَّى الْأَعْرَابِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:

أَتَيْت ابْنَ ذِئْبٍ أَبْتَغِي الْفِقْهَ عِنْدَهُ ... فَطَلَّقَ حَتَّى الْبَتِّ تَبَّتْ أَنَامِلُهُ

<<  <   >  >>