للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عتاب الله لداود عليه السلام لتركه حوائج الناس]

دائماً نقارن بين هذا الموقف: دفاع المولى عن رسوله صلى الله عليه وسلم فيمن أخطأ عليه، وبين قضية نبي الله داود، حينما كان يعتكف في محرابه وجاء إليه الخصمان وتسورا عليه، بأنه كان الفرق في ذلك في توجيه الله لنبي الله داود في موقفه في محرابه، وثمة فرق بعيد بين أن يدافع الله عن رسوله ممن جهل حرمة بيته، ومن يرسل إليه الملائكة يتسورون عليه المحراب، وذلك كما في سورة ص: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:١٧] {فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:٢٢] إلى آخر الأبيات.

فنبي الله داود قد آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وجعله خليفة في الأرض ليحكم بين الناس، فهذه مهمته وهذا منصبه وهذه مؤهلاته، لكنه قسم زمنه إلى أثلاث: يوم لأهل بيته وشأنه الخاص، ويوم يجلس فيه للحكم بين الناس، ويوم يخلو ويعتكف لله سبحانه وتعالى في محرابه، ولكن هل الرسل بعثوا ليعتكفوا في المحاريب؟ وهل القضاة يتركون القضاء بين الناس ويعتكفون؟ لا.

فأداء الواجب مقدم على ذلك، فلما حصل من داود عليه السلام ما حصل وكان الخلطاء في حالة لا ترضى، بعث الله له ملكين تسورا عليه المحراب ففزع منهم، قالوا: نحن خصمان بغى بعضنا على بعض، وذكرا له القضية، وهي قضية محلولة لا تحتاج إلى قضاء، رجل عنده تسعة وتسعين نعجة والثاني عنده واحدة، فقال صاحب: التسعة والتسعين: أعطنيها أكمل المائة، وهذا ظلم لو عرضته على طفل صغير لقال: لا.

هذا ظالم، ولا حاجة إلى قاضٍ صاحب اجتهاد قد أوتي الحكمة.

هل سمعتم بأن اثنين بغى بعضهما على بعض، وقالوا: يا أيها القاضي احكم بيننا، حتى في أيامنا المدعى عليه ظالم ويعرف ذلك ولكنه يحتاج إلى مراسلة عشرين مرة، ويحتاج إلى إرسال الجنود حتى يأتوا به، متغيب ويعرف نفسه أنه ظالم، ونحن كلنا متفقون على هذا.

إذاً القضية منتهية.

لكن ليرشد نبي الله داود بأن مهمته ليست الاعتكاف {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص:٢٤] ، سبحان الله، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص:٢٤] ، أي: بترك الخلطاء يبغي بعضهم على بعض وهو معتكف في محرابه، وما دمت تعترف بأن الخلطاء يبغي بعضهم على بعض فلماذا تتركهم ومهمتك الأساسية الخلافة في الأرض، وقد آتيناك الحكمة وفصل الخطاب؟ لماذا تعطل هذا وتأتي إلى محرابك تعتكف؟ هذه هي حقيقة الفتنة المذكورة في سورة ص، ولن يكون للمرأة دخل في هذه القضية البتة؛ لأن الله قدم لهذه القصة، فقال: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) وإضافته بصفة العبودية أعظم في التكريم {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:١٧] ، صاحب القوة المعنوية، والقوة المادية، {إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:١٧] ، شديد الأوب والرجوع إلى الله.

{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:١٨-١٩] سبحان الله! إنسان أعطي القوة، ويسخر الله الجبال معه بالتسبيح، ويجمع الله الطير عليه حينما يسبح فتسبح معه، وهو شديد الأوب إلى الله ويفتن بامرأة؟! والله ولا حتى المجنون يصدق هذا.

إذاً سياق القصة يدل على نزاهة نبي الله داود، وأن حقيقة الفتنة هو ما ذكر، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:٢٤] .

إذاً: ما دام تعلم ذلك، وهذه هي الفتنة، وهل تكون الفتنة في العبادة؟ نعم.

معاذ رضي الله تعالى عنه كان يسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وراءه العشاء في المسجد النبوي، وبعد أن يصلي مع رسول الله يذهب إلى أهل قباء فيصلي بهم العشاء، وفي ليلة من الليالي بدأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:٢] {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧] ، {الم} [البقرة:١] ، إلى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا} [البقرة:٢٨٥] ، جاء رجل من مزرعته متعب في عمل نهاره ودخل معه في صلاة العشاء، لما وجده بدأ بسورة البقرة واسترسل فيها، قال: والله لن يرده شيء حتى يختمها، وانفصل عنه وأتم صلاته وذهب إلى بيته، فلما أصبح أُخبر معاذ بذلك، قال: إنه رجل منافق، وكلمة منافق ليست هينة على المسلمين وخاصة في الصدر الأول، فذهب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتكاه، وقص له القصة، فدعاه رسول الله: (ما هذا يا معاذ؟ أتريد أن تكون فتاناً) ، فسمى رسول الله الإطالة في القراءة والقيام على الناس الضعفاء فتنة، ثم قال (من أم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف وذو الحاجة، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، والليل إذا يغشى) .

أين أنت من قصار السور ولا تشق على الناس في طول القيام فتفتنهم.

إذاً: قد تكون الفتنة في العبادات، وهذا نبي الله داود عليه السلام في محرابه لما ترك المهمة التي من أجلها استخلف، ومن أجلها أوتي مقوماتها، وهي الحكمة وفصل الخطاب، وترك الخلطاء -وهم الرعاة- يبغي بعضهم على بعض، عندها ترك مهمته الأساسية؛ فكان الفساد يعم خارج المحراب وهو ساكت عنه وهذا لا ينبغي، ولهذا كنا دائماً ننبه فيما يتعلق بآيات الصيام، عند قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:١٨٧] : إن كل من تتصل به مصلحة الجماهير لا يحق له أن يعتكف ويعطل مصالح المسلمين إلا إذا كان هناك من ينوب عنه، حتى قلنا: يدخل فيهم السقايين والفرانيين وعمال النظافة؛ لتعلق مصالح المسلمين بهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>