للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وصف القرآن للعصاة]

قال الله تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:١١] ، من هذا أخذ مجاهد بأن النبز بالألقاب: يا فاسق يا منافق، وهنا بئس الاسم، والاسم هو العلامة، مأخوذ من السمة ومن الوسم، فهو عند الإنسان اسم، وعند الحيوان وسم، فتسم الإبل على العنق أو الكتف أو الفخذ بحديدة محماة في النار، وتطبع طابعاً في ذلك المكان على أن هذا البعير لقبيلة كذا، فإذا هذا البعير شرق أو غرب ورأته القبائل الأخرى عرفوا بأنه ملك للقبيلة الفلانية؛ فهو هنا وسم.

وإذا ما شرق أو غرب إنسان يسأل: ما اسمك؟ يقول: اسمي فلان، فيعرف باسمه.

(بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ) بعد ما كان يقال: يا مؤمن، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ} [الحجرات:١١] ، فإذا وقعت السخرية كانت السخرية معصية، والمعصية خروج عن طاعة الله، والخروج لغة: الفسق، والفسق أعم من المعاصي، فقد يكون مخرجاً من الملة، وقد يكون كبيرة من الكبائر، وقد يكون صغيرة من الصغائر، أو مطلق الخروج عن الجادة وعن الصراط المستقيم.

يا أيها الذي ينبز بالألقاب لقد كان فعلك فسقاً، والآن يقال لك: فاسق بتنابزك بهذا الاسم بعد أن كان يقال لك: يا مؤمن؛ لأنك لم تؤذ غيرك.

{بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ} والمراد به: من وصف بالفاسق، أو المراد به من نبز غيره واستحق وصف الفسق بنبزه أخاه باللقب الذي يكرهه.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) .

أي: فتوبوا إلى الله من هذا العمل، وتوبوا إلى الله مما وقعتم فيه من سخرية واستهزاء ولمز وتنابز بالألقاب، توبوا من هذا كله.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:١١] لم يقل الفاسقون، مع أنه معصية وفسق، ولكن جاء بالوصف الأخص.

يقول علماء اللغة: إن الظلم لغة: وضع الشيء في غير محله، فإذا جاء إنسان وظلم آخر وأخذ ماله ووضعه في غير موضعه، كيد الغاصب والأصل أن يكون في يد مالكه؛ فقد ظلمه.

فكذلك هؤلاء جميعاً، فمن سخر من إنسان فقد وضع السخرية في غير موضعها؛ لأنه سخر من شخص عسى أن يكون خيراً منه، فإذا كان خيراً منه فلا موضع للسخرية وهو ظلم له، وإذا لمز إنساناً بعينه بعيب فيه أيضاً فقد يكون ظلمه؛ لأن هذا العيب لم يأت به هو وإنما أنت الذي أشهرته، فأنت ظالم في نقله إلى الآخرين، ومثله التنابز بالألقاب؛ فأنت وضعت هذا اللقب في غير موضعه؛ لأن صاحبه يكرهه ويتبرأ منه، لكنه لصق به.

إذاً: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، فالظلم درجات، أعلاها الشرك، كما قال لقمان لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣] وكذلك الإنسان يظلم نفسه بالمعصية، وبالمكروه إلى غير ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>