بِمَعْنَى التَّعْجِيزِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي فِي الْحَقَارَةِ أَوِ التَّنَزُّلِ فِي الْإِلْزَامِ، وَالْمُرَادُ بِالذَّرَّةِ إِنْ كَانَ النَّمْلَةُ فَهُوَ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ وَتَعْجِيزِهِمْ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ تَارَةً، وَبِخَلْقِ الْجَمَادِ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْهَبَاءِ فَهُوَ بِخَلْقِ مَا لَيْسَ لَهُ جِرْمٌ مَحْسُوسٌ تَارَةً، وبِمَا لهُ جِرْمٌ أُخْرَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ «أَوْ» شَكًّا من الرَّاوِي.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهِ: «يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» إِنَّمَا نَسَبَ خَلْقَهَا إِلَيْهِمْ تَقْرِيعًا لَهُمْ بِمُضَاهَاتِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ فَبَكَّتَهُمْ بِأَنْ قَالَ: إِذَا شَابَهْتُمْ بِمَا صَوَّرْتُمْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَحْيُوهَا كَمَا أَحْيَا هُوَ مَنْ خَلَقَ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَسْنَدَ الْخَلْقَ إِلَيْهِمْ صَرِيحًا وَهُوَ خِلَافُ التَّرْجَمَةِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ كَسْبُهُمْ؛ فَأَطْلَقَ لَفْظَ «الْخَلْقِ» عَلَيْهِمُ اسْتِهْزَاءً، أَوْ ضَمَّنَ «خَلَقْتُمْ» مَعْنَى صَوَّرْتُمْ تَشْبِيهًا بِالْخَلْقِ، أَوْ أَطْلَقَ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِمْ فِيهِ.
قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ حَدِيثِ الْمُصَوِّرِينَ لِتَرْجَمَةِ هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ لَوْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ لَمَا وَقَعَ الْإِنْكَارُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُصَوِّرِينَ، فَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُمْ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيمَا صَوَّرُوهُ أَمْرَ تَعْجِيزٍ وَنِسْبَةُ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ؛ دَلَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ نَسَبَ خَلْقَ فِعْلِهِ إِلَيْهِ اسْتِقْلَالًا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَسْبِ اعْتِبَارُ الْجِهَتَيْنِ؛ فَيُسْتَفَادُ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا وَلَعَلَّ غَرَضَ الْبُخَارِيِّ فِي تَكْثِيرِ هَذَا النَّوْعِ فِي الْبَابِ وَغَيْرِهِ بَيَانُ جَوَازِ مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ» إِنْ صَحَّ عَنْهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute