شخصية، كما قال فؤاد سراج الدين باشا في مجلس الشيوخ، ولم تضع استقالة رئيس ديوان المحاسبة هباء، فقد حمل العبء عنه مصطفى مرعي بك، وحمله في قوة وفي جرأة لم يكن يقدم عليها إلا إنسان كامل كمصطفى مرعي.. وإني أذكر حديثًا دار بيني وبين مصطفى مرعي بك قبل أن يقف وقفته في مجلس الشيوخ بعدة أسابيع، قال لي فيه:"إنني ليس لدى ما أخشى عليه"؛ ولكنك لا تستطيع أن تتصور مدى ما يستطيع هؤلاء الناس أن يرتكبوه في حق الناس، ومدى ما يلزمنا من قوة النفس كي نتحمل ونقاوم ونتقدم، ثم روى لي حادث نجيب الهلباوي، وقد كان الهلباوي وطنيًّا فدائيًّا اتهم في حادث محاولة اغتيال السلطان حسين، وبلغ من قوة وطنيته أنه ضرب والدته عندما جاءته في السجن تغريه بالاعتراف على زملائه، وتقبل الحكم عليه، ثم خرج من السجن فإذا به مضطهدًا حتى من زملائه في الوطنية، وإذا بسعد زغلول نفسه يأبَى عليه وظيفة راتبها ثلاثة جنيهات يعول نفسه منها، وظل هذا الاضطهاد يلاحقه حتى تفتت أعصابه، وانطفأت وطنيته، وباع نفسه للإنجليز نظير عشرة آلاف جنيه، اعترف بها على أولاد عنايت في حادث مقتل السردار!!
وخبط مصطفى مرعي بقبضته على مكتبه -كعادته- وقال وهو يضم شفتيه في قسوة -قسوة على نفسه:"لا بد أن نستمر! " ووقف بعدها في مجلس الشيوخ يقلب صفحات تقرير ديوان المحاسبة، ويطالب بحق مصر في صيانة أموالها وكرامتها وسمعتها وأرواح جنودها وضباطها..
فماذا حدث؟
حدث ما لم يتوقعه أحد، فقد قامت الحكومة ممثلة في فؤاد سراج الدين باشا، تدافع عن التصرفات السوداء التي أوردها ديوان المحاسبة في تقريره..
دافعت عن هذه التصرفات رغم أنها غير مسئولة ولم تقع في عهدها..
وفهم الناس أكثر مما بينه فؤاد سراج الدين في بيانه، وأكثر مما قاله جميع أعضاء مجلس الشيوخ!!
وكما انتهى تقرير ديوان المحاسبة بخروج رئيس الديوان، انتهى استجواب مصطفى مرعي بخروجه من مجلس الشيوخ، وخرج مع الذين أيدوه