للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وثمة حوادث تقصد مع تنبيه النفس إلى حينانتها وحياطتها من الوسط الجاهلي. وللبيئة أثر في النفس لا يدفع, وقد تولى حفظ نفس نبيه صلى الله عليه وسلم من أقذارها وإخطارها, حتى يتم له الطهر ويسلم له النظر السليم, والإحساس اليقظ وليفرق بين القيم الحقيقة التي هي كمال الإنسان وبين القيم التي هي النقص والخسران ولقد شاء الله - ومشيئته حق ونور - أن تتمايز هذه النفس عن محيطها لتبصر مساوئه وتنقده نقدا دقيقا عادلا حرا تنقده وهي تنظر فيه بنور الله نقدا لا يعرف الادهان ولا أنصاف الحلول فإن الحق لا يتجزأ أو لا يجزئ بعضه عن بعض؛ إننا لنجد الله قد حمى نبيه أن ينكشف إزاره عن العورة إذا تعرى الصبيان أو الرجال وهم يحملون الأحجار للعب أو لبناء الكعبة١ وفي هذا صيانة لنفسه النبوية من أن تتأذى بما يبعث في النفس من أحاسيس غير كريمة. وحماه من حضور مجالس اللهو والغناء وكان حييا. وكانت الكعبة تزخر بالأصنام وقريش تذبح لها في الأعياد, فحال الله بين نبيه وبينها فلم يمس حياته صنما ولم يحظر عيدا لها. لقد فارق قومه في باطلهم مفارقة كبيرة عرفتها عشيرته فيه قبل النبوة, ومن أعجبها وقوفه بعرفة مع الناس, على حين كانت قريش مما يقفون في المزدلفة.

ذلك أن الله أنعم عليه بالحس السليم الذي يميز بين الحق والباطل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد في قومه فضلا نوَّه به ومِنْ هذا ثناؤه على حلف الفضول الذي تعاقدت قريش فيه على رد الحقوق للمضطهدين وعلى حماية الضعفاء منها ومن غيرها, فقال فيه: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" ٢ ولعل هذه العدالة في الحكم ظاهرة الدلالة في قوله: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق" ٣.

هذه الحوادث وإضرابها من إرهاصات النبوة لم يمنحها المحدثون من كتاب السيرة ما تستحق من عناية وبحث فتجاوزا عن كثير منها, ولم يتلبثوا عندها إلا يسيرا. ولو أمعنوا النظر وتتبعوا أحوال المصطفين والأنبياء لو جدوا فيها سنة من سنن الله في أعداد أنبيائه.

فمن ذلك رؤيا آمنة بنت وهب حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم إنه:


١ تقرأ البداية والنهاية ج٢ ص٢٨٧.
٢ السيرة لابن هشام: م١ ص١٣٤.
٣ رواه مالك في الموطأ في ص ٩٠٤ تحقيق فؤاد عبد الباقي وهو حديث مدني صحيح متصل في وجوه صحاح.

<<  <   >  >>