للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

به, أو ابتعاد عنه وتكذيب. وبهذا يتجلى المعنى التاريخي الإنساني العظيم في الآية التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس, على جبل الرحمة, في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} ١ كان يوما مشهودا فاضلا تمت فيه الكلمة الإلهية والنعمة الرحمانية على بني آدم. وكان الله جعل من هذا اليوم قبلة زمانية اتجهت إليها أفئدة الأنبياء والمؤمنين بهم, إقرارا منهم على أنفسهم بأن كلا منهم مرحلة في تاريخ النبوات, وحلقة في سلسلة المرسلين. وشاء الله فأتم السلسلة بمحمد صلى الله عليه وسلم فجاءت رسالته لا يجهلها المؤمنون الصادقون من أهل الكتاب, يعرفونها {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} , وهي تحمل الإيمان بالرسل السابقين, والتقدير لجهودهم في تبليغ الكلمة الربانية إلى الناس, والثناء على صدقهم, وتضحياتهم في سبيل إنقاذ الإنسان من براثين الشيطان, وباركت جهادهم, وحيث إخلاصهم: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ٢.

ويبدو أن الأنبياء الذين بعثوا في الزمن المبكر, لم يتجاوز علمهم بالنبي صلى الله عليه وسلم سوى الإخبار بمبعثه, وأخذ العهد عليهم, أو دعوة حارة تجري على لسان إبراهيم عليه السلام فتفتح لها أبواب السماء, وتلتقي بما قدر الله منذ الأزل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ٣ فلما تأخر الزمان وأنزلت التوراة والإنجيل, توضحت الإشارات وذكرت العلامات, وصار الذين عندهم علم الكتاب على بينة من مجيء رسول {اسْمُهُ أَحْمَدُ} ٤ لا يخطئونه. إن رأوه أدركوا يومه. فقد وضح الله لهم كثيرا من علاماته؛ مكان بعثه, مهاجرة, وصفاته. ثم أتى على التوراة والإنجيل ما أتى من التبديل والتغير. وأفسدت الوثنية الدين الذي جاء به عيسى, ودخل أتباعه من بعده في الشرك إذ قالوا: إن الله ثالث ثلاثة. واختفى دين التوحيد فلم يستمسك به إلا رهبان أو أساقفة قلة, منقطعون في الصوامع, أو الكنائس يتجافون عن الناس في شركهم, وفساد عقيدتهم, ولا يجرؤون على النعي عليهم خوفا من بطشهم وتنكيل الحكام بهم. وأغلب الظن أن هؤلاء النفر القليل احتفظوا بصفاء دين عيسى عليه السلام, بما خبؤوا في صوامعهم من صحف الإنجيل الذي


١ المائدة: ٣.
٢ الصافات: ١٨١.
٣ البقرة: ١٢٩.
٤ الصف: ٦.

<<  <   >  >>