للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

كان أقرب شيء إلى الأصل الذي أنزل على نبي الله عيسى عليه السلام. قال ابن هشام لما ذكر الراهب بحيرى: "فلما نزل الركب المصري من أرض الشام, وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية, ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب, إليه يصير علمهم عن كتاب فيها, فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر"١. ويلتقي هذا الحديث بحديث سليمان الفارسي رضي الله عنه - الذي تقلب في كنائس عدد من الأساقفة الصالحين قبل أن يصير إلى أرض العرب قبيل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم - إذ قال له أسقف عمورية وهو على فراش الموت, وكان آخر أسقف رافقه: "والله ما أعمله أصبح اليوم أحد على مثل ما كان عليه الناس, آمرك به أن تأتيه, ولكنه قد أظل زمان نبي, وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام, يخرج بأرض العرب, مهاجره إلى أرض بين حرتين فيهما نخل به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل". فكان هؤلاء ينتظرون الوعد الحق؛ ظهور النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل٢.

وكانت القراءة المجردة عن الهوى في التوراة والإنجيل كافية لأن تحمل أهل الكتاب على إيمان: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ٣.

لقد نزلت التوراة والإنجيل يحملان الشهادة التاريخية الواضحة الثابتة على سر من أسرار الغيب العظمى لم يكتمه الله, ولم يجمله, عن اليهود والنصارى أعذارا لهم, وليكونوا السابقين إليه. ومن أولى بنصر كلمه الله ممن يعرفها؟ ولكنهم كانوا قوما فرقوا دينهم شيعا وأحزابا وأتت عليهم عصور من الحسد والبغضاء والعصبية فلم يفلحوا في التجرد من ذلك, والإخلاص للحق المنزل, فمنَّ الله بالدين على قوم أميين سلمت فطرهم من رسوبات الخلاف الديني ومن العقد النفسية, والصيغ المنطقية الموات, فلم يلبثوا أن صاروا به خير الأمم- والحمد لله والمنة -.


١ السيرة لابن هشام: ص١٨١.
٢ المصدر نفسه: ص٢١٨.
٣ البقرة: ١٢١.

<<  <   >  >>