للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

تكن سيادته في قريش كلها. بشهد بذلك أن أبا جهل استطاع أن يؤلب عليه قريشاً، ففرضت عليه الحصار الاقتصادي، والعزلة الاجتماعية في الشعب، حين استشرى العداء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين.

لقد ظهرت أزمة سياسية حادة بعد موت عبد المطلب نتيجة الحركة السياسية الاجتماعية السابقة، هي أزمة الزعامة: لمن السيادة في مكة بعد عبد المطلب؟ كان كثير من البطون على قدر متقارب من الوجاهة الاجتماعية، مما جعل الأزمة عسيراً حلها. وهذه الأزمة وإن لم تعلن عن نفسها في شعر أو ندوات أو تكتلات سياسية، فقد كانت كامنة في الأنفس على أهبة الظهور، عند أية بادرة، فيها للتنافس مجال. وهذا ما حدث حقاً عندما اختصمت قريش فيمن يرفع الركن إلى موضعه، وهم يبنون الكعبة؟ إن من يرفع الركن يوم ذاك هو السيد المطاع. ربما ما كانوا ليختلفوا على عبد المطلب لو كان حياً ولكن قريشاً فقدته ولم تتفق على غيره، وكانت أزمة حادة قسمت مرة أخرى قريشاً إلى فريقين، وكادوا يحتكمون إلى السيوف، لقد فقدوا السيد الزعيم، وودوا لو يظفرون به حتى لا تراق دماءهم على جدران الكعبة المقدسة المشرفة، وانتظروا، وقلبوا بينهم أمرهم، وقالوا: ليقض بيننا أول من يطلع علينا من باب الصفا. وطلع عليهم الزعيم؛ طلع محمد بن عبد الله. وكان صوت واحد مجلجل، كله فرح ورضا وقبول: "هذا الأمين رضينا، هذا محمد"١.

لقد كان محمد بن عبد الله - إذ كان رجل مواقف - كان الزعيم المرتجى؟ فما سبب هذا الرضا الجماعي؟

لن تتعب أنفسنا بالتنويه بنسبة العريق. وهو وإن كان من أسباب الرضا. لكنه لم يكن السبب الأساسي فلو كان ذلك، فإن أبا طالب كان بين ظهرانيهم، وهو أسن منه، وسيد عشيرته يوم ذاك، ولكن السبب في شخصه لا في نسبه - مع إحترامنا البالغ لنسبه الزكي صلى الله عليه وسلم. لقد قالوا: "هذا الأمين" فأشاروا إليه باللقب، ولم يشيروا إليه بالنسب.

كانت الأمانة سر الرضا، وهي صفة أوضحنا مدلولها ومضمونها، وتفرد رسول الله بها. وكانت قريش تبتغي حكماً، مجرداً من الهوى، قادراً على أن يلقي عواطفه العصبية جانباً، وأن يعلوا على خصومتهم، فيقضي بينهم ولا يدخل فيها. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا


١ ابن هشام م١ ص١٩٧.

<<  <   >  >>