للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قرشياً هاشمياً من البيت الذي يلي شؤون الكعبة، وما هو بالغريب عن قضايا قومه، وما يحزبهم، ومع ذلك رأت فيه مختلف البطون من قريش ضالتها المنشودة، ومفتاح الفرج في أزمتها العصبية، فهذا الأمين في اعتبارها إذن فوق العصبية المحلية؛ رجل يستطيع كل قرشي أن يجد عنده الإنصاف والعدل والنزاهة. لا يخشى منه تحيز، ولا ميل عن الحق إلى القريب، أو صديق، أو نصير. حقاً قد احتكمت قريش إلى رجل منها، ولكنه في هذا التقدير فوقها كلها؛ رجل لا يعبد ما تعبد، وليس من دينها في شيء هو عندها مثال العدالة والاستقامة والصدق.

وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في نفوس القوم، وما هم فيه من خلاف، وحضره الحل المرضي توفيقاً من الله وعوناً. أمر بثوب، فبسط ووضع الركن فيه، وجعل ممثلي البطون على أطرافه، وأمرهم أن يرفع كل من ناحية، حتى إذا حاذوا مكانه، رفعه بيديه الطاهرتين، ووضعه في مكانه وبنا فوقه.

لقد كان رافع الركن إلى موضعه ابن إبراهيم عليه السلام، الذي دعا ربه مخلصاً {ربنا وأبعث فيهم رسولاً منهم} ١ فوضعه محمد صلى الله عليه وسلم في المكان الذي وضعه فيه أبوه من قبل أول مرة عندما رفع البيت.

ورضيت قريش أن يفوز كل منها من الشرف بنصيب، وبردت بذلك أكبادها ولكنها رضيت بأمر أعلى وأبعد مغزى؛ رضيت أن يفوز بالشرف كله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إذ كان هو الرافع للركن حقيقة.

لقد كان في هذه الحادثة معتبر، لو استطاع خصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردعوا نفوسهم بعد المبعث، وأن يحكموا المنطق والعقل، كما فعلوا عند تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أطلقوا لغرورهم ولهواهم العنان، وركبوا الشر، فانتهى من لم يسلم منهم إلى سوء المصير.

إن الدرس البليغ الذي كان بإمكان قريش أن تتعلمه من نجاح رسول الله، صلى الله عليه وسلم في حل أزماتها في الجاهلية هو أن هذه القبيلة ذات الحيوية والإمكانات لا يمكن أن يستقيم أمرها وتتحد كلمتها، وتبلغ الفلاح، حتى تتخلى عن العصبية الضيقة وتذعن للحق وتنقاد للناصح الأمين، ولقد دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سنوات ثمان من بناء الكعبة إلى الحق، فاستنفرت عنه، فذاقت ما ذاقت من الويل والخسارة، ولم


١ البقرة: ١٢٩.

<<  <   >  >>