للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والملوك الصالحين عندما جعل نفوسهم فوق المال، فخلت قلوبهم من محبة الثروة، وسمت على المادة فجعلوا العقيدة فوقها وكانت عندهم للدين خادماً وتبيعاً. هذا نبي الله سليمان سأل ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه العجب العجاب، وفجر الكنوز بين يديه واستخرجت له الثروات من جوف الأرض، ومن قاع البحار فكانت عنده كلها خارج قلبه، ولم يشغله إلا بحب الله وكلمة التوحيد ولم تستطيع هذه الأموال الخلابة أن تظفر من قلبه بشيء وكان هذه ابتلاء لسليمان أيما ابتلاء. وظهر هذا جلياً في موقفين من مواقفه: أولاً إذ جاءه وفد بلقيس بهدية ثمينة ظناً منها أن سليمان ملك كسائر الملوك يرضي المال طموحه فكان جوابه.. {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} ١ ولو كان سليمان جماعاً شَرِهاً لارتضى بها، فإن من تسلط عليه حب المال لا يشبعه إلا التراب. والموقف الثاني: إذ لام نفسه على انشغاله باستعراض خيل الجهاد حتى توارت الشمس بالحجاب أو فاتته الصلاة فأدب نفسه أيما تأديب؛ أكب بنفسه على سوق الخيل وأعناقها وكان قد أجهدها الجري والسباق ونضحت بالعرق فطفق يمسحه عنها، يفعل ذلك وهو الملك بين يديه الإنس والجن تخدمه، قهراً لنفسه التي استمتعت بالخير برهة فنسيت ذكر ربها وإذلالا لها وتأديبا.

وتتجلى هذه الظاهرة أيضاً في موقف الفاتح الصالح ذي القرنين إذ عرض عليه أهل ما بين السدين مالاً عظيماً يؤدونه سنوياً له ليبني لهم سداً يحميهم من غارات يأجوج ومأجوج فرفض العرض ودعاهم إلى الاعتماد على أنفسهم ومساعدته بالرجال والمعادن لينفعهم بخبرته ويقيم لهم ردماً خير من السد: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} ٢.

لقد كان سليمان وذو القرنين عليهما السلام أغنى أهل الأرض في يومهم وكان المال لا يدخل في حسابهما في شيء إلا بما ينفع عباد الله وبما يرضي الله. واختاره الله محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً لا نشب عنده ولا متاع وقال الأثرياء من العرب: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ


١ النمل: ٢٦.
٢ الكهف: ٩٥.

<<  <   >  >>