الثاني: يقول في بيانه الخطيب في (شرف أصحاب الحديث) : "إنما كره مالك وابن إدريس وغيرهما الإكثار من طلب الأسانيد الغريبة والطرق المستنكرة، كأسانيد: (حديث الطائر، وطرق حديث المغفر، وغسل الجمعة، وقبض العلم، وإن أهل الدرجات، ومن كذب علي، ولا نكاح إلا بولي.. وغير ذلك، مما يتتبع أصحاب الحديث طرقه، ويعنون بجمعة؛ والصحيح من طرقه أقلها. وأكثر من يجمع ذلك: الأحداث منهم، فيتحفظونها ويذاكرون بها. ولعل أحدهم لا يعرف من الصحاح حديثاً وتراه يذكر من الطرق الغريبة والأسانيد العجيبة التي أكثرها موضوع وجلها مصنوع، ما لا ينتفع به، وقد أذهب من عمره جزءاً في طلبه. وهذه العلة هي التي اقتطعت أكثر من في عصرنا من طلبه الحديث عن التفقه به، واستنباط ما فيه من الأحكام. وقد فعل متفقهة زماننا كفعلهم، وسلكوا في ذلك سبيلهم، ورغبوا عن سماع السنن من المحدثين، وشغلوا أنفسهم بتصانيف المتكلمين. فكلا الطائفتين ضيع ما يعنيه، وأقبل على مالا فائدة فيه"(١) .
فبين الخطيب أن سبب كراهة مالك وغيره لتتبع الطرق وجمع الأسانيد من طلبة الحديث، لا لأنه تتبع وجمع وحسب، ولكنه جمع لطرق أحاديث صحيحة أصلاً، وليس هناك أي فائدة زائدة من تتبع أسانيدها الأخرى التي قد يكون أغلبها ضعيفاً أو باطلاً. ومثال ذلك في عصرنا: ذاك الذي سود صفحات طويلات في تخريج حديث واحد، متوسعاً غاية التوسع في ذكر مصادر العزو، من مسانيد ومعاجم ومشيخات وأجزاء وتواريخ، مع أن الحديث صححه الشيخان من قبل، ولعله وافقهما على تصحيحه أئمة آخرون، ولا مخالف لهم في تصحيحه؛ فيخرج أخونا هذا، دون أي فائدة زائدة على ما كان قد بدأ به، عندما عزا الحديث للصحيحين، وهو أن الحديث صحيح!!
ثم إنه لا تتحقق كراهية ذلك الجمع للأسانيد إلا بشرط، وهو إذا ما كان الجامع لها من أحداث طلبة العلم وصغارهم، ممن لم يصلوا إلى درجة معرفة قدر جيد من صحيح السنة، فتنقطع أعمارهم في جمع تلك الأسانيد، ولعل أحدهم لا يعرف حديثاً صحيحاً (كما يقول الخطيب) ، فذهب عمره فيما لا ينتفع به. فمثل هذا لا تخصص في الحديث،