وقال:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى الله الملك الحق لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} ، والعبث هو الباطل، وهو من اللغو واللهو، ووصف الله نفسه بالحق، والحقُّ نقيضُ الباطل والباطل من اللغو.
وقال:{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، والحق نقيض الباطل واللغو والكذب من اللغو في القول، إلى غير ذلك.
فأنتَ ترى أن السورة مشحونة بجو الدعوة إلى الحق وذَمِّ اللغو في القول والعمل.
فوضعُ هذه الآية في مكانها له دلالته في جو السورة، كما هو في الآية قبلها.
ثم انظر بناء هذه الآية، فإنه جعلها اسمية المسند، فلم يقل:(والذين لا يلغون) ، أو (عن اللغو يعرضون) ، وقدم الجار والمجرور {عَنِ اللغو} على اسم الفاعل {مُّعْرِضُونَ} ولكلٍّ سببٌ. فإن قوله:{عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} أبلغ من (لا يلغون) ذلك أن الذي لا يلغو قد لا يُعرض عن اللغو بل قد يستهويه ويميل إليه بنفسه ويحضر مجالسه، أما الإعراض عنه فإنه أبلغُ من عدمِ فِعْلهِ، ذلك أنه أبعد في التَّرك، فإنَّ المُعرض عن اللغو علاوة على عدم فعله ينأى عن مشاهدته وحضوره وسماعه، وإذا سمعه أعرض عنه كما قال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ}[القصص: ٥٥] . فهم لم يكتفوا بعدم المشاركة فيه، بل هم ينأون عنه.
ثم إن التعبير باسمية المسند يشير إلى أن إعراضهم عن اللغو، وصفٌ ثابت فيهم، وليس شيئاً طارئاً. وهو مع ذلك متناسب مع ما ذكر فيهم من الصفات الدالة على الثبوت.